الصياغة التاريخية: عملية تدوين تهدف الى إعادة تصور الماضي من واقع الحقائق المستخلصة عن طريق عمليات الجمع والنقد والتجريح التي سبقت الإشارة إليها، وهذا ما جعل الإنشاء التاريخي يقوم عني استنتاج الأحكام وتفسير الوقائع من خلال تحليل المعلومات وتركيبها وعرضها في أسلوب تاريخي يتميز بحسن العرض وسلامة اللغة ووضوح المعنى ودقة الوصف.
1. التحليل التاريخي: يعتمد على إعادة النظر في هيكل البحث وترتيب أقسامه ترتيبا منطقية ومتناسبة في الحجم حسب الفصول والأبواب، بحيث ينتهي الباحث فيه إلى مخطط واضح يقوم على الهيكل التركيبي المتمثل في الخطة النهائية بأقسامها الثلاثة ( مقدمة، متن وخاتمة).
ويقوم التحليل التاريخي على الموضوعية والعقلانية والإفناء، ولهذا يتوجب على الباحث أن يحذر التأثر بالأسطورة والخرافة والتعليل الغائي. ويتجنب الخضوع للسلطة ويبتعد عن التصديق بالمعتقدات البالية والانسياق وراء التعصب الأعمى. لأن كل ذلك يتنافی والنظرة الموضوعية والتقييم العقلي، بل يقيم حاجزا علي الفكر والمعرفة والاجتهاد ويؤدي إلى تفسير قوانين الحياة بظواهر الأمور، وهذا ما ينتج عنه انغلاق العقل وعجزه على التحليل وقصوره عن إبداء وجهة النظر الشخصية.
فالأسطورة تركز على تفسير متكامل للعالم يجمع بين البيئة والانسان في وحدة واحدة وبنظرة متلائمة مع مستوى الأفراد القائلين بها في الفترة التي سبقت ظهور العلم. والخرافة تقوم على انكار العلم ورفض مناهجه، فتصبغ الظاهرة غير الحية بصبغة الحياة بحيث تطلق على هذه الظواهر سلوك الكائنات الحية مثل خرافة ( إيزيس واوزیریس وفيضان النيل ). أما التحليل الغائي فيفسر الظواهر الطبيعية من خلال الغايات التي تحققها هذه الظواهر للبشر مثل تعلیل وجود القمر والنجوم من أجل إضاءة الأرض، وسقوط المطر من أجل نمو النباتات، بينما الخضوع لسلطة الرأي يرتكز على احترام الإرادة الموروثة وتمجيد الماضي والنظر اليه نظرة خيالية.
كما أن التسليم بالآراء الشائعة أو الكثيرة الانتشار والتأثر بشهرة الأشخاص والانسياق وراء التعصب يجعل صاحبه يعتقد بأنه صاحب الحق وداعم الفضيلة وأن غيره يفتقر إلى ذلك فيتخذ موقفا معادية للأخرين كل هذه المحاذير يجب على الباحث أن بتفطن إليها ويتجنبها لأنها تتسبب في إلغاء التفكير الحر لديه ولا تسمح له بتحليل المعلومات تحلية عقليا ومنطقيا.
2. التركيب التاريخي: هو خلاصة القواعد والنظم المطبقة في المنهج التاريخي، والذي من المفروض أن تكتسب وتنمی بالممارسة والتمرن الذاتي، وبالاطلاع والمعرفة الشخصية. على أن يتم ذلك في إطار هادف، بحيث يركز الباحث عند قيامه بعملية التركيب التاريخي على شيء أساسي يتمثل في تكوين فكرة واضحة عن كل حقيقة من الحقائق المتجمعة لديه. بحيث تكون في مجموعها الهيكل العام.
إن التركيب التاريخي يتم عبر جمع تلك الحقائق - بعد صياغتها وترتيها زمنية - في مجموعات على شكل أقسام متجانسة، وتصنيفها حسب طبيعتها الداخلية سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية أو فكرية أو روحية أو إدارية أو قانونية أو غير ذلك. مع ملء الفجوات التي نتجت عن فقدان المصادر التي تظهر بعد التصنيف وذلك بالرجوع الى دوازنة أحداث الماضي بالحاضر، وإيجاد علاقة لتلك الحقائق المصنفة ضمن الهيكل العام لنبحث. سبأ للوصول إلى تعميمات وأحكام ونتائج ذات معنى تكسب التركيب التاريخي صفة الإيضاح والتحليل والاستنتاج والاجتهاد.
3. الإنشاء التاريخي (العــــرض): بعد أن انتهي الباحث من جمع المادة والتحليل والتحقيق والتنسيق والتنظيم والتعليل والإيضاح ولم يبق أمامه سوى أمر واحد هو العرض، والعرض في عرف المؤرخين يتوقف على مكانة القارئ واستعداده لتقبل ما نكتب، وهو نوعان: ما يدون للعلماء ورجال الاختصاص، وما يقدم لجمهور القراء. فحينما يقدم الكاتب بحثاً علمياً دقيقاً لزملائه المؤرخين يجدر به أن ينتبه إلى ما يلي:
1- أن تكون الرسالة واحدة مرتبطة الأجزاء، بحيث يتروى في الكتابة، فيبدأ كل فصل من فصوله وكل فقرة من فقراته بملخص عام يستعرض فيه الآراء العمومية ثم ينتقل إلى النقاط الفرعية.
2- أن يفرق بين المتن والهامش، فلا يورد في المتن ما قد يزعزع وحدته ويفصل أجزاءه
3- أن تتحلى أقواله بالأمانة والنزاهة، بحيث تظهر بمظهر التعليل والإيضاح حينما تكون تعليلاً أو إيضاحاً، وتنص بالحقيقة المجردة حينما تكون حقيقة صرفاً خالية من الرأي والإيضاح أو التعليل.
4- أن يؤيد كل حقيقة من الحقائق المفردة بإشارة في الهامش إلى المرجع الذي أخذت منه، بالتفصيل وبصورة جلية واضحة تسهيلاً لمتابعة البحث والتدقيق.
كما أن هناك عدة مواصفات يجب أن يتحلى بها الباحث حتى يستقيم أسلوبه ويحسن عرضه، ومن هذه المواصفات نذكر:.
- إجادة اللغة: بحيث يستطيع الباحث أن يعبر عن الحقائق التاريخية التي توصل اليها بصدق وأمانة ودقة، دون تشويه للحقائق أو حذف للأفكار أو تحريف المعاني عن مسارها الدقيق من حيث المحتوى التاريخي والمضامين اللغوية للكلمات والجمل مع استعمال موفق ودقيق لقواعد اللغة
- امتلاك الأسلوب: بحيث يكون العرض التاريخي بسيطة يعتمد على العبارة المركزة البعيدة عن تكرار المعاني، ويرتكز على البناء المحكم للفقرات التي تجعل العرض التاريخي جيدا وذا قيمة أدبية مع نجنب الإبهام والابتعاد على الاستطراد والإطناب والإيجاز وأن يلتزم الجمل البسيطة، ويتجنب إطالة الفقرات، وذلك بتقنين الأفكار وجعلها مترابطة في سياقها ومتواصلة في معانها.
ويتطلب الأسلوب أيضا الالتزام بالتناسب والاستمرار بمعالجة كل فكرة في فقرة واحدة. وقد يجوز أن نخصص أكثر من فقرة لفكرة واحدة شريطة عرض الأفكار الرئيسية في جمل قليلة ومركزة، وأن يسعى في ذلك للربط المتين بين الجمل والفقرات، هذا مع حرص الباحث على إضفاء الحيوية والتشويق على الأسلوب باللجوء إلى الاستفهام والوصف الحسي وضرب الأمثلة.
- حسن التبليغ: وذلك بالتقيد بالتركيز والوضوح، ويكون ذلك بتجنب صيغ الجزم والحتمية والمبالغة، فيشرح الباحث الأفكار والحقائق وهو واضع نصب عينيه أن ما يعرفه هو من خلفيات الأمور لا يعرفه القارئ، وأنه لا يكتب لنفسه وإنما ليبلغ ما يكتبه للقارئ، مع العلم بان حسن التبليغ يقتضي رصانة العبارة والابتعاد عن الإسفاف، وتجنب الكلام المنمق والعبارات المتحيزة والمطاطة، واختيار الألفاظ الدقيقة المحددة، واستخدام الاصطلاحات التاريخية بمضامينها السليمة.
ومن المفيد في هذا المجال أن يتنبه الباحث إلى ضرورة تجنب بعض الهفوات المعتادة التي تؤدي الى ضعف الأسلوب، مثل استعمال الضمائر في عرض الأحداث كـ: أنا ونحن وغيرها وبدء الجمل بعبارات: ونتيجة له...، وعلى أية حال، والآن. أو إدراج الكلمات الدارجة أو السوقية أو الضعيفة وغيرها. كما يجب على الباحث اجتناب التعابير المتداخلة والمعتمدة على الجملة الواحدة. وكذلك العبارة الطويلة جدا وأن يبتعد عن ذكر الألقاب والوظائف المتصلة بالأشخاص إلا إذا كانت لها صلة بالفكرة التي يعالجها.
- المعلم: Chahda Mohammed
-النقد الباطني أو التحليلي للوثيقة التاريخية:
والنقد الباطني أو التحليلي للوثيقة التاريخية يدور حول محورين أيضا: الأول: معرفة ما أراد المؤلف أن يقوله أو ينقله في وثيقته ويتم ذلك عن طريق تفسير الوثيقة بموجب اللغة التي كتب بها وأساليب التعبير الشائعة في عصر المؤلف وهو نقد تحليلي إيجابي.
الثاني: معرفة أمانة المؤلف ودقته وهو نقد تحليلي سلبي.
-تفسير النص (النقد الإيجابي):
والتفسير عملية لغوية، ولفهم نص ما، ينبغي معرفة اللغة التي كتب بها، وأساليب التعبير الشائعة في عصر كتابة النص وبلده وطريقة المؤلف أو أسلوبه الخاص، كما ينبغي أن لا تفسر كل كلمة وكل جملة مفردة بل بحسب المعنى العام للفقرة أي بحسب السياق وهي قاعدة أساسية في التفسير، قال فوستيل دي کولانج: (إنّ لدراسة الكلمات أهمية بالغة في علم التاريخ، فاللفظ الذي يفسر تفسیراً خطأ يمكن أن يكون مصدرا لأغلاط فاحشة).
-أمانة المؤلف (النقد السلبي):
إن النقد الإيجابي يعرفنا فقط بما أراد المؤلف أن يقوله، ويبقى أن نحدد:
1- ما اعتقده فعلا إذ يمكن أن لا يكون أمينا.
2- ما عرفه فعلا إذ يمكن أن يكون قد أخطأ.
ولهذا يمكن التمييز بين نقد الأمانة الذي يستهدف معرفة ما إذا كان مؤلف الوثيقة لم يكذب، وبين نقد الدقة الذي يستهدف معرفة ما إذا كان المؤلف لم يخطئ في النقل، ويمكننا التوصل إلى الهدفين عن طريق سلسلتين من الأسئلة.
السلسلة الأولى من الأسئلة باتجاه كشف الأمانة: فنتساءل هل كان المؤلف في ظرف من شأنه أن يميل بالمرء عادة إلى عدم الأمانة، ويجب أن نبحث ما هي هذه الظروف بالنسبة إلى مجموع الوثيقة بوجه عام وبالنسبة إلى كل قول بوجه خاص. والجواب تقومه التجربة، فكل كذبة، صغيرة كانت أو كبيرة سبها القصد الخاص عند المؤلف لإحداث تأثير خاص في قارئه، وهكذا يرد ثبت الأسئلة إلى ثبت بالمقاصد التي يمكن أن تدفع المؤلفين عادة إلى الكذب، فهل يحاول المؤلف أن يجز لنفسه أو جماعته منفعة عملية، وهل كان يكره جماعة أو شخصا خمله ذلك على تشويه الوقائع ابتغاء أن يعطي فكرة سيئة عن خصومه، أو كان يتعاطف خمله عطفه وحبه على تشويه الوقائع وإعطاء فكرة حسنة عن أصدقائه، أو كان متملقا لجمهوره أو أراد أن يتجنب صدمة جمهوره فأغفل ذكر الحقائق أو علق جمهوره بحيل أدبية فشوّه الوقائع لجعلها أجمل حسب تصوره للجمال من خلال ذكره لتفاصيل أو خطب وقصائد وغير ذلك.
والسلسلة الثانية من الأسئلة باتجاه كشف الدقّة: فهل وجد المؤلف في ظرف من الظروف التي تسوق الإنسان إلى الخطأ، إن الخبرة العملية المستفادة من العلوم تعرفنا ما هي ظروف المعرفة الدقيقة بالوقائع، وليس ثمة غير مسلك علمي واحد لمعرفة واقعة ما، وهو (الملاحظة) وينبغي أن تكون هذه الملاحظة قد تمت على وجه صحيح، ويمكن وضع ثبت الأسئلة الخاصة بدوافع الخطأ ابتداءا من التجربة التي تبين لنا الأحوال المعتادة لوقوع الخطأ، فهل كان الملاحظ في موضع يستطيع أن يشاهد أو يسمع جية (مرؤوس يدعي رواية المداولات السرية التي جرت في مجلس رؤساء) وهل تحول انتباهه فيها أو أهمل لأن الواقعة التي كان عليه أن يشاهدها لم تكن تهمه، وهل افتقر إلى خبرة خاصة أو إدراك عام لفهم الوقائع ؟ وهل خلط بين وقائع متمايزة، وخصوصا ينبغي أن نتساءل متى سجل ما رأي أو سمع؟ وهذه نقطة رئيسة، وذلك أن الملاحظة الدقيقة الوحيدة هي تلك التي تسجل بمجرد وقوعها، والانطباع الذي الم يسجل إلا فيما بعد مجرد ذكرى معرضة للاختلاط في الذاكرة بذكريات أخرى، و(المذكرات التي كتبت بعد الوقائع بعدة سنوات وأحيانا في أخريات حياة المؤلف قد أدخلت في التاريخ أخطاء لا تعد ولا تحصى، ولذلك تعتبر المذكرات وثائق من الدرجة الثانية.
إن هاتين السلسلتين من الأسئلة عن الأمانة واليرقة في أقوال الوثيقة تفترضان أن المؤلف شاهد الواقعة بنفسه، لكن وثائق التاريخ في أغلب الأحيان ليست من هذا القبيل، بل أغلبها من الدرجة الثانية، وهي لا تكفي فيها أن تفحص الظروف التي عمل فيها مؤلف الوثيقة، لأنه ناقل عن راو آخر، ولهذا ينبغي تغيير ميدان النقد إلى الراوي الثاني حتى نصل إلى الراوي الأول، وقد يبقى الراوي الأول مجهولا، والنقد أيضا بحاجة أن يعرف هل هذه النقول المتوالية قد حافظت على القول الأصلي أو حرفته، وهل المنقول الذي سجلته الوثيقة كان مكتوبة أو شفويا، فالكتابة تقيد المنقول وتجعل نقله أمينا، وعلى العكس تجد أن القول الشفوي يظل انطباعا خاضعة للتحريف في ذاكرة المشاهد نفسه باختلاطه بانطباعات أخرى ومروره شفوية بوسطاء يزداد التحريف، فالثقل الشفوي فيه تحریف مستمر، ولهذا لا يعتمد في العلوم إلا على النقل المكتوب، وفي حالة النقل المكتوب نبحث هل رد المؤلف مصدره دون تغيير، ثم نبحث بوجه عام هل كان من عادته تحريف مصادره وفي أي اتجاه.
-النقد الظاهري " نقد التصحيح ":
1- نقد المادة التاريخية: إن التعامل مع المادة التاريخية المتوفرة لدينا و تحلیل الاستدلالات التي تقودنا إلى ملاحظات تحدد موقفنا من الواقعة التاريخية يمثل أساس عملية النقد الشاقة التي تتطلب مراسا طويلا، و ما دام النقد سلوكا مكتسبا ولیس میلا طبیعیا لدی الإنسان، فإنه يقتضي تلقينه و المداومة عليه حتى يكتسب الباحث الشجاعة الأدبية و النظرة المتفتحة، لأن التسليم بالوقائع كما يقول أحد الفلاسفة هو نوع من الجبن العقلي.
تتمثل إشكالية المنهج التاريخي في تسليط النقد علی الوثيقة، لأن الأصل في التاريخ الاتهام ولیس براءة الذمة، فالمؤرخ والحالة هذه هو رائد حكمته، ولهذا وجب عليه تطبيق النقد التام على الوثيقة التاريخية التي بين يديه للتعرف على أي جزء منها يمكن أن يوثق به؟ وما هو القدر يمكن قبوله من ذلك الجزء الذي وثق به؟ وإلى أي حد يمكن الاطمئنان إليه؟
وهذا ما تحاول عملية النقد والتمحيص بمختلف جوانب معالجته (النقد الخارجي والباطني السلبي والإيجابي) والإجابة عنه انطلاقا من التقيد بقواعد خاصة تتصل باصول ومراجع و مضامين المادة العلمية.
2 - النقد الخارجي أو الظاهري: يهدف أساسا إلى إثبات صحة الأصل للوثيقة والتأكد من صحته و سلامته من أي تحریف یکون قد طرأ عليه و التثبت من انه على الحالة التي وضعه عليها صاحبه وهو ينقسم إلى نقد التصحيح و نقد المصدر:
3 - نقد التصحيح: يهدف إلى إثبات صحة الأصل التاريخي للوثائق، ويعمل على إعادة الوثيقة إلى حالتها الأصلية أي ترميمها وإرجاعها إلى وضعها الأول إذا كان قد طرأ عليها تغییر، فإذا كان المصدر مكتوبا يواجه الباحث عدة احتمالات، و استخلاصها التي يطرحها نقد التصحيح عادة ما يقوم به المختصون في تحليل الوثائق التي يستعين بها الباحث لهذا الغرض، والإحتمالات الواردة في نقد التصحيح ترتبط بأصل الوثيقة أو انعدامه، ويمكن إجمالها في ما يلي:
1- احتمال أن یکون أصل الوثيقة موجودا، وفي هذه الحال پتحتم على الباحث إثبات صحة الأصل التاريخي للوثيقة بالتأكد من انه يرجع إلى من نسب إليه، وذلك بتطبيق قواعد نقد المصدر التي تتصل بفحص الورق والخط والحبر والأختام ونوعية الكلمات المستعملة و التعرف على كاتب الوثيقة و مكانته و موقفه من الأحداث، و هذا ما يجعل مهمة الباحث في إثبات أصل الوثيقة تتصل باختصاص علم الوثائق و علوم اللغة و غيرها من المعارف المساعدة على تحليل الوثيقة.
2 - احتمال أن یکون أصل الوثيقة مفقودا وليس هناك سوی نسخة واحدة من هذا الأصل يحتمل أن تكون بها أخطاء و أغلاط وقعت نتيجة النقل و الاقتباس، و هنا يجب أن يلتجئ الباحث إلى قواعد تخمينية تقريبية لحصر التحويرات التي قد تكون طرأت على الوثيقة الأصلية المفقودة، سواء كانت هذه التحويرات أخطاء إدراك مثل عدم إتمام الجمل أو تحویر معنی بعض الكلمات او الجمل للمعنى الإجمالي للوثيقة او خطا تحریف مثل إهمال النقاط و إسقاط الحروف، و يعتمد عادة في حصر الأخطاء على اللغة و طبيعة المعلومات التي تتضمنها الوثيقة.
3 - احتمال وجود نسخ عديدة مختلفة لوثيقة ضاع أصلها، وفي هذه الحال نقارن النسخ فيما بينها، ويعتمد على أقرب نص منها إلى الأصل باعتباره أقل أخطاء و أقرب إلى تاريخ الأحداث المسجلة بالوثيقة، مع الإقرار بأن النص المعتمد هو في الواقع نص تخمیني لا يعوض النص الأصلي المفقود بأي حال من الأحوال.
وهذه الاحتمالات نفسها التي تطبق على الوثيقة المكتوبة يمكن إجراؤها على الرواية الشفوية، مع الأخذ في الاعتبار اختلاف طبيعة المصدر الشفوي ومواصفاته فالباحث في تعامله مع الرواية الشفوية باعتبارها مصدر الحادثة التاريخية يواجه عدة احتمالات منها:
1- احتمال وجود رواية واحدة للحادثة التاريخية أو ما يعرف برواية الآحاد، مما يستلزم الجذر بحيث ينصب الاهتمام على إيجاد الشواهد والأدلة التي تؤكدها أو تنفيها، وإذا تعذر ذلك وجب على الباحث أن يشيد إلى ذلك صراحة مع إسنادها إلى صاحبها.
2 - احتمال ورود عدة روایات مختلفة ومتعددة لحادث تاريخي واحد، الأمر الذي يتوجب على الباحث غربلة هذه الروايات وتحليها ومقابلتها لاستخلاص الحقيقة منها، وذلك بتحديد ما وود فيها من حيث الزمان والمكان والأشخاص مع عدم الالتجاء إلى التوفيق بين مضمون الروايات المتضاربة، فلا عبرة بتعدد الروايات لأن الحادث واحد في الواقع، وفي حالة التعارض على الباحث أن يثبت الروايات المتعارضة بنصها دون ترجيح أو توفيق بينها. ج - احتمال عدة روايات الحادثة واحدة مع وجود رواية تخالف ذلك الإجماع، فلا يجوز والحالة هذه ترجیح الكثرة على الإفراد إذ يحتمل أن يكون الرأي الواحد هو الصحيح، ولهذا يرجع الباحث إلى تحلیل مصدر تلك الروايات من حيث الزمان والمكان والشهرة، فإذا انتهي إلى ترجيح واحدة على أخرى فعليه أن يجانب الحكم النهائي، آملا في العثور على أدلة جديدة، لاسيما إذا كانت الرواية تتعلق بأحداث تتصف بالتداخل والاضطراب کالحروب والثورات والتغيرات الاجتماعية والسياسية.
3- احتمال اتفاق روایات عدة على حدث تاريخي واحد، فعلى الباحث في هذه الحالة ألا يأخذ هذا التواتر کدليل قاطع على صحة الحادثة، وذلك لاحتمال أن تكون تلك الروايات كلها منقولة عن بعضها البعض، وتستند إلى مصدر واحد قد لا يوثق به کالأخبار الصحفية والنشرات الدورية وغيرها، ولهذا يجب إثبات صحة الرواية بتلمس مواطن التشابه و التطابق والاختلافات المحتملة رغم اتفاق الروايات في عرض الحادثة.
وإذا كانت هذه الاحتمالات توجب على الباحث عدم الأخذ بالرواية الشفوية دون تمحيص ونقد، فإنه يجب عليه كذلك الا يعتبر كل ما ورد في الرواية غير صحيح فيرفضه ولا يعتمد عليه، ولابد للباحث أيضا من عدم المبالغة في الثقة بالمصدر الشفوي فلا يثبت الرواية إلا بعد أن يخضعها للنقد و المقارنة، و أن يأخذ في ذلك بعين الاعتبار أن الاعتماد على الرواية يتناسب تناسبا عكسيا مع المدة التي تفصل بين وقوع الحادثة وتذكر الشاهد نظرا إلى ضعف الذاكرة وتأثير عامل الزمن.
-النقد الظاهري "نقد المصدر ": نقد المصدر يتوخى فيه الاحتراز مما قد يدخل على الوثيقة من إضافات أو تعديلات، و ذلك بالتعرف علي الجهة التي صدرت عنها الوثيقة، و على مؤلفها و زمن كتابتها، أي تحديد مصدر الوثيقة، لأن الوثيقة التي يجهل صاحبها قد لا تفيد شيئا، إذ هناك الكثير من الوثائق و المصنفات تنسب لسبب أو لأخر إلى مؤلف ما، و يسجل لها تاريخ غير التاريخ الذي كتبت فيه به دف إعطاء الكتابة شهرة و تدعيم مصداقيتها لدى القراء، كما أن كثيرا من المصادر تخلو بالمرة من أية إشارة لاسم مؤلفها و عصرها ومکان تدوينها، مما يتطلب التقصي و البحث لمعرفة مؤلفها وتاریخ تدوينها.
ويتم ذلك بالتعرف على موقع كاتب الوثيقة من الأحداث بتحديد عصره و بيئته ومعارفه، لأن قيمة المعلومات عادة ما ترتبط بشخصية كاتبها و مكانته وکيفية فهمه للحوادث و تأثره بها ومدى انعكاس الظروف والأوضاع عليه، و لا يتأتى ذلك إلا بالتعرف على تاريخ الوثيقة الذي يحدد بدوره البعد الزمني للمصدر وكذلك تصنیف مكانة الوثيقة للتثبت من أن الكاتب شاهد عيان أم لا، فبتحدید زمان و مكان الوثيقة يمكن التعرف على هوية المؤلف و على نوعية الوثيقة هل هي أرشيفية أم أنها نص روائي، أدبي.
وحتى يتحقق ذلك يلتجئ الباحث عادة كما هو الشأن في تصحيح الوثيقة إلى فحصها للتعرف على نوعية ورقها الذي يساعد على ضبط زمانها ومکانها، هذا ولتحديد نوعية الخط والتوقيع و الأختام التي تدلنا على تاريخ و مكان الوثيقة، كما يجب على الباحث أن يقوم بتحليل اللغة و الأسلوب و معاني الكلمات التي تعكس روح العصر، و أن یتبین موقف صاحب الوثيقة من الأحداث التي سجلها دون أن يهمل دلالة الألفاظ اللغوية و الجغرافية و التاريخية لأنها توضح الصلة بين الوثيقة و صاحبها، وبالتالي تؤكد أو تنفي صحتها. وهكذا يتضح لنا أن النقد الخارجي أو الظاهري لا يهتم بنقد الوثيقة و المصدر بل ينصب على ظاهر الوثيقة، لأنه يرمي إلى التأكد من صحتها وإثبات نسبتها إلى صاحبها، ولهذا فإن الباحث إذا أهمل هذا الجانب الأساسي قد يعتمد على أصول مزورة تؤدي به لا محالة إلى الانتهاء إلى نتائج لا تمت إلى الحقيقة التاريخية بصلة.
-النقد الباطني: يهدف النقد الباطني إلى الوصول إلى ما يمكن قبوله من المعلومات التاريخية الواردة في الوثائق والأصول التاريخية، وينصب على صلة مؤلف الوثيقة التاريخية بالأحداث وموقفه منها، من خلال التعرف على حالته النفسية والغرض من تسجيله لهذه الأحداث، وهل هو مقتنع بما كتبه أو أنه سجله تحت تأثير عامل محدد أو لسبب طارئ، الأمر الذي يجعل النقد الباطني عملية صعبة و محرجة قد لا تمارسها بإتقان إلا الصفوة من الباحثين ذوي المقدرة على تقصي الحقائق.
يهتم النقد الباطني أيضا بأمانة المؤلف ودقة معلوماته ونظرته إلى الأحداث، وينقسم إلى نقد باطني إيجابي ونقد باطني سلبي.
1- النقد الباطني الايجابي: يعتمد على تحليل مضمون الوثيقة لفهمها فهما صحيحا وإدراك ما أراده منها صاحبها، ولهذا فالباحث في نقده الباطني الايجابي يرکز أساسا على التحقق من ثبوت أصالة النص وإدراك المدلول الحقيقي له، وتفسيره أو تجديد المعاني الخفية فيه من خلال تحديد المعنى الحرفي للألفاظ والإحاطة بمدلولاتها واختلاف معانيها وتطور لغتها حسب شروط المكان والزمان ومستوى ثقافة ومعارف العصر الذي تعود إليه.
يتطلب النقد الباطني تحليلا شاملا يتمثل في العملية اللغوية والتاريخية و الجغرافية لألفاظ الوثيقة، وهذا ما يضطر الباحث إلى الالتجاء عند الضرورة إلى العلوم المساعدة للتاريخ لتكون عونا له على التعرف على الأبعاد اللغوية و المكانية والزمانية للوثيقة، هذه الأبعاد التي لا يمكن الإحاطة بجوانبها إلا بمعرفة مادة اللغة في الفترة التي يرجع إليها النص من حيث نوعية المفردات و مواصفات الأسلوب و طريقة الكتابة، إذ يجد الباحث نفسه مرتبطا بالفيلوجيا (فقه اللغة هو علم دراسة اللغة من المصادر التاريخية الشفوية والمكتوبة)، وعلم اللغة والمعجميات وعلم الأسماء والجغرافيا والكرونولوجيا، لكون هذه العلوم تعرّفه على دلالات الألفاظ وضبط أسماء المدن والمواقع والأحداث والوقائع والتأكد من التاريخ الذي تعود إليه أو ترتبط به.
2 - النقد الباطني السلبي: يركز هذا النقد على الظروف التي كتب فيها النص التاريخي لضبط أقوال کاتبه وإثبات صحته أو مطابقتها للأصل بهدف التعرف على الحقائق ومدى دقتها و مطابقتها للحقيقة التاريخية التي ننشدها، ولا يتأتى ذلك إلا بالتثبت من صدق المؤلف و إخلاصه و عدم انخداعه أو وقوعه في الخطأ.
كما ينصب النقد الباطني السلبي أيضا على تحليل شخصية المؤلف أو صاحب الوثيقة، مما يتوجب معه طرح أسئلة تتعلق بموقف صاحب النص من الأحداث ومدی نزاهته وأمانته في نقل الخبر وإثبات الحادثة، ومن هذه الأسئلة نورد:
- هل كان صاحب النص يريد أن يحصل على منفعة علمية أو مادية فيقدم معلومات غير صحيحة ؟
- هل كان صاحب النص في موقف أرغمه على الكذب؟
- هل انساق صاحب النص وراء غرور فردي أو توجه جماعي بغية التمجيد والفخر؟
- هل أراد صاحب النص التعلق بالجمهور بإخفاء ما قد يصدمه ويثير نقمته؟ - هل حاول صاحب النص تضليل الجمهور بحيل أدبية، فابتعد عن الواقع تجميلا أو تشويها؟
والهدف من كل هذه الأسئلة هو التعرف على مدى أمانة صاحب الوثيقة ودقة معلوماته، هذه الأمانة و الدقة التي يتحکم فيها إيمان المؤلف أو صاحب النص بالحقيقة التي سجلها، ومدی إحاطته بالحقيقة التي أوردها، وما دامت الحقيقة المتوخاة لا تتم عن طريق شهود عيان بل لابد من أدلة تثبت وتؤيد شاهد العيان فإنه من الضروري أن يطرح الباحث على نفسه أسئلة أخرى توجه عمله وتوقه على بعض ما في الوثيقة من تحيز و أخطاء، فيتساءل عن غرض الكاتب مما کتب؟ و عن مدى تأثره بمصلحته ومذهبه ومیوله؟
وإلى أي حد تأثرت كتابته بالأحداث؟ وما هو مستواه اللغوي وقوة مدارکه وقدرته العقلية؟ وهل حضر الحادثة بنفسه أو رویت له؟ كل ذلك يوجب عدم الإفراط في الشك والاحتراز من تحميل الوثيقة
أكثر من معناها الظاهر، ولهذا يتوخی من خلال النقد الباطني السلبي التعرف على الغرض الذي من أجله كتبت الوثيقة سواء كانت في شكل سجلات إدارية أو مذكرات شخصية أو تقارير إعلامية، مع العلم بأن هذه الأصناف من الوثائق بعضها وضع من أجل إبراز الحقيقة و بعضها الآخر کتب على سبیل الدعاية، و في هذا المجال لا بد أن يضع الباحث في الإعتبار أنه كلما كانت محتويات الوثيقة مبردة من الزخرف و بعيدة عن تحوير الحقيقة كلما ازدادت ثقتنا بها، كما أنه كلما اتسعت ثقافة كاتب الوثيقة و كان أكثر خبرة و اطلاعا على الأحداث كلما ازدادت درجة اطمئناننا إلى الوثيقة.
- المعلم: Chahda Mohammed
ب-النقد التاريخي وعناصره: النقد التاريخي هو ممارسة علمية منهجية ينتقل بموجبه المؤرخ من مرحلة القراءة والاقتباس إلى مرحلة الفحص والتدقيق والتمحيص، بغية الوصول إلى الحقيقة التاريخية بحياد تام وعبر سلسلة من الأدوات المترابطة التي تصنع تاريخيا من خلال مادته وحقائقه. وبدون فحص وتدقيق تلك المادة فإننا لن نكتب تاريخا وإنما سنكتب فلسفة للتاريخ، وهنا تكمن أهمية النقد التاريخي ودوره العميق في قراءة وقائع التاريخ وحوادثة على أسس علمية واقعية، بعيدا عن الحب والكراهية، وعن الصراع بين الأنا والأخر، وعن التعصب لفكر أو لمذهب أو لجماعة أو لقبيلة أو المجتمع أو لجنس أو لدين. فقط التاريخ كما هو بخيره وشره، وتجربته ومدرسته، باعتباره أفضل معلم ومرشد ومربي.
أما النقد التاريخي فهو مرحلة تالية، وهو منهج أرقي بكثير لا يمارسه إلا من عرف وطبق، بعكس المنهج الذي يمارسه الجميع ويتفق على قواعده الجميع، حتى أولئك المهتمين الذين لم يدرسوا منهج البحث العلمي، فهو يتعامل مع مؤلفات الأخرين ووضعها موضع الشك، بل ويذهب لقراءة أفكارهم، والتعرف على نواياهم والدخول إلى باطن عقولهم؛ لمعرفة ما هو صحيح وما هو مزور، وما هو صادق وما هو كاذب، وما هو محايد وما هو منحاز، ومن هو شاهد ومن هو ناقل، وما فيه أمانة وما فيه تدليس، ولمعرفة المجهول وتصحيح المعلوم، وكل ذلك لا يكون إلا من خلال التطبيق العملي على الوثائق وممارسة قواعد النقد عشرات المرات ومناقشتها وتصويبها وتقويمها، بل وحتى التفريق بين الوثائق ذاتها
فالمؤرخ يمكن أن يلاحظ أثار الواقعة التاريخية، ولكن ليس مباشرة، بل من خلال الوثيقة.
وهنا تكون البداية...كيف ؟
يبدأ المؤرخ من الوثيقة معتمدا على الاستدلال من خلال محاولة استنتاج الوقائع والأثار الباقية، وتتضح هذه الصورة من خلال المعادلة الآتية:
الوثيقة (نقطة البداية).......................الاستدلال.....................الوصول إلى الواقعة الماضية (نقطة النهاية).
وبين نقطة البداية (الوثيقة) ونقطة الوصول (الواقعة الماضية) ينبغي المرور بسلسلة مركبة من الاستدلالات المرتبطة بعضها مرتبط ببعض، ولذلك يجب توخي الدقة؛ لأن الخطأ يفسد النتائج إذا وجد في أي مرحلة كانت في البداية، أو الوسط، أو النهاية |
-مراحل النقد التاريخي، تتحدد أمام المؤرخ الموضوعي مرحلتان من البحث التاريخي هما:
الأولى: مرحلة جمع الوثائق المرتبطة بالواقعة التاريخية، ونقدها، وتمحيصها وتعيين درجة الاعتماد عليها.
الثانية: مرحلة إعادة بناء تصور الواقع التاريخي بعد تجزئة المعلومات التي أفرزتها الأصول والوثائق المعتبرة وتصنيفها وترتيبها على أساس التسلسل المنطقي للحوادث.
وتتفاوت الدراسات التاريخية عمقا وأصالة بقدر ما يكشف عنه الباحث من حقائق جديدة في كلا المرحلتين أو إحداها.
ان المرحلة الأولى من البحث بكلا محورها هي الأكثر أهمية بسبب تعرض الوثائق التاريخية والروايات الشفوية للتحريف عمدا وهو الحالة الأكثر شيوعا أو اشتباها وهو الأقل حصولا.
انفتح الغربيون على النقد التاريخي في القرن الثامن عشر، وأصبح التاريخ عندهم علما له منهج واضح المعالم في القرن التاسع عشر على يد لانجلو وسینوبوس العالمان الفرنسيان حيث كتبا (المدخل إلى الدراسات التاريخية) ظهرت الطبعة الأولى منه سنة 1898م وقد عالج الكتاب شروط المعرفة في التاريخ، وعلاماتها وخصائصها وحدودها، وكيفية التعامل مع الوثائق من أجل الإفادة منها في التاريخ. وقد ترجمه الدكتور عبد الرحمن بدوي وطبع في القاهرة سنة 1963 م.
وفيما يلي تلخيص للمرحلة الأولى من البحث التاريخي وهي مرحلة التعامل مع الأصول والوثائق كما عرضها هذان العالمان الفرنسيان.
-كيفية التعامل مع الأصول والوثائق: من الواضح إن أي فحص نقدي للوثائق يسبقه تساؤل عما إذا كانت ثمة وثائق، وما مقدارها، وما هي مضامينها ؟ فإذا تراءى للمؤرخ أن يعالج نقطة تاريخية أيا كانت، فعليه أن يتلمس الموضع أو المواضع التي ترقد فيها الوثائق الضرورية لمعالجتها على فرض وجودها فالبحث عن الوثائق وجمعها قسم من الأقسام الرئيسة المندرجة في مهمة المؤرخ. وبعد الحصول على الوثيقة يأتي دور نقدها وخصها بنوعين من النقد، الأول: النقد الخارجي، الثاني: النقد الباطني.
النقد الخارجي للوثيقة التاريخية: فيدور حول محورين: الأول: نص الوثيقة والثاني: مصدرها.
-نقد النص:
قبل استخدام الوثيقة يجب أن نعرف أولا هل نص الوثيقة (صحيح) أي هل ينفق قدر الإمكان مع نسخة المؤلف التي كتبها بخطه؟ فإن كان النص (سقيم) فيجب تصحيحه، ومن الخطر أن نعدل عن هذا المسلك، فإن استخدام نص حرفه النقل، قد يفضي إلى أن ننسب إلى المؤلف ما هو في الحقيقة من تحريف الناس، وقد شيدت نظريات استنادا إلى نصوص أفسدها تحريف الناسخ، ثم تهدمت كلها دفعة واحدة لما اكتشف النص الأصلي لهذه النصوص الفاسدة أو لا أصلح.
وقد أصبح هذا القسم من المنهج التاريخي (أي إصلاح النصوص وردها إلى حالتها الأصلية) اليوم أوفر أقسامه حظا من الرسوخ والانتشار بين الباحثين ولهذا السبب نقتصر هنا على تلخيص مبادئه الرئيسة:
فلتكن لدينا وثيقة غير منشورة أو لم تنشر بعد نشرا مطابقا لقواعد النقد فماذا نعمل من أجل تحقيق نصها على أحسن نحو ممكن؟ أمامنا للنظر ثلاث حالات: الحالة الأولى: هي الحالة التي تكون لدينا فيها النسخة الأصلية التي كتبها المؤلف بخطه فما علينا حينئذ إلا أن ننشر النص بدقة كاملة كما هو. الحالة الثانية: الأصل مفقود ولا يعرف غير نسخة منه، هنا لابد من أخذ الحيطة إذ من المحتمل مبدئيا أن تكون النسخة تحتوي على أغلاط، والتحريفات التي تطرأ على الأصل في نسخة منقولة (وهي التي تسمى باسم اختلافات النقل) سببها إما التزييف أو الغلط، فبعض النساخ يتحدثون عن عمد عن تعديلات أو يحذفون مواضع، وكل النساخ تقريبا ارتكبوا أغلاطا في النقل مرجعها إلى الإدراك، أو قد تحدث عرضا، فالأغلاط الراجعة إلى الإدراك تحصل حين يخيل إليهم أن ثمة أغلاطا في الأصل فيصححونها لأنهم لم يفهموها، والأغلاط العرضية تحدث حين يسهون في قراءة الأصل أو لا يعرفون أن يقرؤوه أو حينما يسيئون السماع وهم يكتبون عن إملاء أو حينما يرتكبون عن غير قصد سقطات قلمية.
والتحريفات التي تنشأ من التزييف وعن الأغلاط في الإدراك غالبا ما تكون صعبة جدا في التصحيح بل في اكتشافها وبعض الأغلاط العرضية (حذف عدة أسطر مثلا) لا سبيل إلى تصحيحها في الحالة التي نحن بصدد البحث فيها، حالة النسخة الوحيدة، لكن غالبية الأغلاط العرضية يمكن حزره.
الحالة الثالثة: توجد نسخ عديدة مختلفة لوثيقة ضاع أصلها، وهنا نجد أن العلماء المحتملين المحدثين لهم ميزة على أسلافهم، ففضلا عن أنهم أوفر حظا من المعلومات، فإنهم يتبعون خطة منظمة لمقابلة النسخ والهدف كما في الحالة السابقة هو الحصول على نص أقرب ما يمكن إلى الأصل.
لقد كان العلماء المحصلون في الماضي، ومثلهم الناشئون في هذه الأيام، كان عليهم في مثل هذه الحالة أن يكبحوا حركة أولية بغيضة تصدر عفوا ألا وهي: الاستعانة بأية نسخة تقع في متناول اليد.
والحركة الثانية ليست خيرا من الأولى، إذا كانت النسخ المختلفة ليست من عنصر واحد فيستعان بأقدمها، والواقع ان الأقدمية النسبية للنسخ ليست لها نظرية وواقعية في كثير من الأحيان أية أهمية، لأن مخطوطة القرن السادس عشر منقولة عن نسخة جيدة مفقودة من القرن الحادي عشر لها قيمة أكبر بكثير من نسخة مغلوطة معدلة من القرن الثاني عشر أو الثالث عشر.
والحركة الثالثة ليست هي الأخرى حسنة: وهي أن نستخرج القراءات المختلفة للموضع الواحد ونعدها ونقرر وفقا الأغلبية، فلو كان لدينا مثلا عشرون نسخة من نص ما: وكانت القراءة (أ) تشهد عليها 18 مخطوطة، والقراءة (ب) تشهد عليها مخطوطتان، فإن تفضيل (أ) على هذا الأساس معناه أن كل النسخ لها نفس القيمة، وهذا الافتراض ينطوي على غلط في الإدراك، لأنه إذا كانت 17 نسخة من النسخ 18 التي تشهد على القراءة (أ) قد نسخت كلها عن النسخة الثانية عشرة، فإن القراءة (أ) لم يشهد عليها في هذه الحالة غير نسخة واحدة في الواقع، وأصبح السؤال هو: هل القراءة (أ) أحسن أو أسوأ، - من ناحية المضمون والمعنى من القراءة (ب).
وقد تقرر أن الموقف المعقول الوحيد هو أن نحدد أولا: العلاقات بين النسخ بعضها مع بعض - وفي هذا السبيل نبدأ من مصادرة لا مشاحنة فيها وهي: إن كل النسخ التي تحتوي في نفس المواضع على نفس الأغلاط هي نسخ منقول بعضها عن بعض أو نقلت كلها عن نسخة كانت توجد فيها هذه الأغلاط، فليس من المعقول أن يرتكب نساخ مختلفون، وهم ينقلون كل منهم من ناحيته عن الأصل الخالي من الأغلاط نفس الأغلاط تماما. وإذن فالاتفاق في الأغلاط شاهد على الاتفاق في المصدر.- وعلينا دون ملامة أن نطرح كل النسخ المنقولة عن نسخة محفوظة لدينا: إذ من الواضح أنه لا قيمة لها إلا قيمة هذه النسخة التي هي مصدرها المشترك، ولا تختلف كلها عنها، إذا كان ثمة اختلاف، إلا بأغلاط إضافية فإن إضاعة الوقت أن نبين اختلافات القراءة الواردة فيها. - فإذا تم هذا، فلا يكون أمام المرء غير نسخ مستقلة بعضها عن بعض منقولة مباشرة عن النسخة الأصلية، أو نسخ فرعية مصدرها (وهو نسخة مأخوذة مباشرة عن الأصل) مفقود.
ولتصنيف النسخ الفرعية إلى أسر كل منها تمثّل على نحو متفاوت في النقاوة نفس الرواية، نلجأ إلى منهج مقارنة الأغلاط، فهذا المنهج يمكننا عادة بدون عناء من وضع جدول أنساب كامل للنسخ المخطوطة يبرز بكل وضوح أهميتها النسبية وليس هاهنا مجال البحث في الأحوال الصعبة التي فيها تصبح العملية شاقة إلى أقصى حد أو حتى غير ممكنة
التنفيذ نتيجة سقوط عدد كبير من النسخ الوسطى، أو بسبب ألوان من المزج الاعتباطي بين نصوص روايات كثيرة متمايزة، على أن المنهج في هذه الأحوال القصوى لا يتغير، فإن مقارنة المواضع المتناظرة أداة فعالة لا يملك النقد هاهنا غيرها. فإذا ما تم وضع شجرة أنساب النسخ، نقارن الروايات المستقلة ابتغاء الوصول إلى نص الأصل.
-نقد المصدر:
والنقد هنا يهدف إلى التحقيق عن مصدر الوثيقة (المؤلف)، وعن صحة انتسابها إليه، إذ الوثيقة التي لا يعرف من أين أنت ومن هو مؤلفها وما هو تاريخها لا تفيد شيئا.
نتفحص أولا خط الوثيقة ثم لغتها، وتجمع كل المعلومات الخارجية المتعلقة بالوثيقة التي توجد متفرقة في وثائق من نفس العصر أو من عصر أحدث.
ويهدف النقد أيضا إلى معرفة المصادر التي اعتمدها المؤلف في وثيقته، فكثير من الوثائق التاريخية التي تبدو في الظاهر أصيلة ليس إلا انعكاسا (دون ذكر ذلك) (وقد يذكر ذلك) لوثائق أقدم منها ومن الواجب في نقد المصدر أن يميز قدر المستطاع المصادر التي استعان بها مؤلف الوثيقة.
ونتائج نقد المصدر بوصفه يعنى بتقدير إسناد الوثائق على نوعين فهو من ناحية يستعيد الوثائق المفقودة. ومن ناحية أخرى يقضي على سلطة كثير من الوثائق (الصحيحة) أعني غير المتهمة بالتزييف وذلك بإثبات أنها فرعية ثانوية تساوي ما تساويه مصادرها.
- المعلم: Chahda Mohammed
أ- التعرف على المصادر التاريخية: يتم التعرف على الأحداث عبر وسيلتين: الأولى مباشرة وهي ملاحظة الحادثة كما جرت أساسا، وهذا ميدان الدراسة الاجتماعية الميدانية والثانية غير مباشرة وهي التي تصلنا عن طريق شخص شاهدها وكتب عنها، وهذا ما يهم التاريخ باعتباره دراسة للماضي.
تدخل ضمن المصادر كل المعلومات والحقائق التي تتصل بأي موضوع يخضع للدراسة والبحث، وقد اعتبر المفكر الانكليزي كولنجوود في كتابه " فكرة التاريخ. أن أي شيء في العالم يمكن أن يغدو شاهدة على أية مسألة ويعتبر مصدرا تاريخيا، فبدونه لا يمكن التوصل إلى استنتاجات أو أحكام، وبانعدامه لا يتأتى لنا رسم صورة للتطورات والأحداث الماضية.
وهذا ما عبر عنه أيضا أسد رستم في كتابه " مصطلح التاريخ - بقوله: " إذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ معها.
يتم التعرف الأولي على مادة البحث بالرجوع الى المراجع العامة مثل دوائر المعارف وقوائم المراجع (البيبليوغرافيات) والمدونات العامة والدوريات العلمية التي تصدرها الهيئات العلمية المختصة، وكذلك بالرجوع إلى الكتب العامة والدراسات الحديثة التي لها صلة بموضوع البحث، وخاصة تلك التي تتوفر على ثبت للمراجع والمصادر.
ومن الأحسن للباحث المبتدئ أن يرجع في بحثه إلى المادة التاريخية المعتمدة على المصادر والتي تتضمنها عادة أمم الموسوعات والمدونات المعرفية وفي مقدمتها:
- الموسوعة الكبرى (الفرنسية).a Grande Encyclopedie francaise L
- الموسوعة الفرنسية Encyclopédie française- الموسوعة الإسلامية Encyclopédie de l'Islam
- الموسوعة البريطانية Encydopedia Britannica- الموسوعة الأمريكية Encydopedia Americana
- الموسوعة الألمانية. Der Grosse Brokhaus
كما يتوجب عليه في بعض المواضيع الرجوع إلى سجلات فهارس الكتاب والمؤلفين وكتب التراجم والطبقات، والتي تشير إلى أهمها بالنسبة إلى التاريخ الإسلامي حسب التصنيف التالي:
فهارس الكتب والمؤلفين:
- الفهرست لمحمد بن اسحاق بن النديم (حوالي 338ه/1046م )؛ کشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة المعروف بكاتب جلبي (ت 1067 ه/1656م)؛ - هدية العارفين باسماء المؤلفين وآثار المصنفین إسماعيل بن محمد البغدادي (ت1339 ه / 1920 م)؛ معجم المؤلفين لعمر كحالة...
- التراجم والطبقات: وفيات الأعيان لأحمد بن خلكان (ت 681ه / 1282م ) ؛ الضوء اللامع للسخاري ( 905ه/ 1499م)؛ ترتيب المدارك للقاضي عياض ( 544ھ / 1159م).
- المعاجم التاريخية الجغرافية: مثل معجم الأدباء وكذلك معجم البلدان لياقوت الحموي ( 626ه / 1228م) وتقويم البلدان لأبي الفداء (732 ه/ 1331 م).
تتنوع المصادر باختلاف طبيعة المادة التاريخية التي تتضمنها وطريقة تسجيلها للأحداث وتعاملنا معها، فهناك:
1. الآثار المادية: تشمل جميع المخلفات المادية التي تعود الى الماضي سواء كان قريبأ معاصرة او بعيدا يعود إلى عصور ما قبل التاريخ، بحيث تغطي أنواع الفنون كالعمارة والزخرفة والمنحوتات بما فيها الظاهر للعيان كالمباني التذكارية الكبرى أو التي ظلت مغمورة تحت التراب، والتي لا يمكن التعرف عليها إلا عن طريق التنقيبات الأثرية، أو التي قد يتم الكشف عنها عن طريق الصدفة أحيانة. وكثير منها أصبح ضمن محفوظات المتاحف.
إن الآثار المادية تمثل بحق شواهد أصلية للنشاط الإنساني بحيث تعتبر أصدق المصادر وأكثر اقتراب من الحقيقة لأنها تعكس الواقع مجردة عن ميول الباحث. فالآثار الرومانية مثلا بالجزائر تظهر بصدق المستوى الحضاري لتلك الفترة من حيث شكل البناء وطراز العمارة. ونوعية الحياة الاقتصادية والاجتماعية كما هو دون تحوير أو تغيير، ما عدا ما قد يطرأ عليها من تأثير ظروف المناخ وعوامل الزمن التي يجب أن يأخذها الباحث بعين الاعتبار عند استخلاص معلوماته منها.
2. الآثار المكتوبة: وهي عادة ما تعرف بالأصول، لكونها مصادر أساسية للمادة الخام وسجل تفصيلي للحوادث غير المباشرة. وتعتبر أرقی أنواع المصادر المسجلة، مع أنها لا يمكن أن تتجرد من الانطباع والتأثر الذي يتركه الحادث في نفس المؤرخ المعاصر أو المسجل للأحداث. مما يجعل الحقيقة دائما تكتنفها بعض ظلال من الشك تحد من مدى موضوعيتها وصدقها ونزاهتها، ولهذا يجب أن تؤخذ نفسية كاتبها ومسجلها بعين الاعتبار من طرف الباحث عند التعامل مع المادة التاريخية التي تقدمها
تنقسم الآثار المكتوبة الى صنفين: صنف له أصوله الأصلية ويعتبر مصدرا أوليا ومرجعا من الطراز الأول لأن كاتبه يكون بمثابة شاهد على التاريخ، ولأنه لا يحتمل الكذب لكون أوراقه بمثابة وثائق وضعت لذاتها. ولم تكتب بغرض أن تكون شاهدة على التاريخ، وهذا الصنف تتضمنه عادة دور المحفوظات - الأرشيفات - وأغلبه تقارير سرية وأوراق خاصة من قبيل مسودات وأصول للمعاهدات والمراسلات والتعليمات والتسجيلات والمكاتبات والمعاملات والمذكرات والحوليات واليوميات والخطابات الشخصية.
أما الصنف الثاني من الآثار المكتوبة فهو الذي لا نملك أصوله وإنما نعتمد فيها على كتابات تاريخية منقولة، عادة ما تتضمنها المكتبات العامة والخزائن الخاصة. وهي في اغلبها مخطوطات او كتب قديمة أو مصنفات معاصرة للحادثة أو دراسات حديثة وتآليف متأخرة. وهي في حقيقتها، سواء المخطوط منها أو المطبوع، مصادر مشتقة لأنها اعتمدت على معلومات أولية، وهذا ما يجعل ثقتنا فيها مرتبطة بمدی حكمنا على مؤلفها أو ناقلها، الأمر الذي يتطلب إخضاع مادتها للنقد والتمحيص.
3. الروايات الشفوية: وهي الأقوال التي تؤخذ عن طريق الرواية مباشرة من الذين عاشوا الحدث، أو التي تسجل في إطار حفظ التراث الشفوي لتقديمها للباحث. وهي في اعتمادها على الذاكرة والرواية يجب إخضاعها للمقارنة والتأكد من صدقها، وهذا ما جعل بعض المؤرخين يرون في الاعتماد على ذكريات الشعوب والرجوع إلى الأدب الشعبي خطرة على صحة ودقة التاريخ.
- المعلم: Chahda Mohammed