لقد كان دافع الدراسات اللغوية لدى العرب دافعا دينيا، ليحرّكهم تجاه فهم وتفسير القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة، وبذلك حاول العلماء العرب والمسلمون أن يكرّسوا قدراتهم العقلية في النفاذ لدلالات الخطاب القرآني وخطاب السنّة النبوية، في إطار استنباط أحكام تشريعية تستلزمها استمرارية الحياة وتجدّد نمط الحضارة عبر تقادم العصور، آخذين- العلماء- في حسبانهم صلاحية الخطابين (القرآن والسنة النبوية) لكلّ زمان ومكان، مع تجدّد آليات الفهم المنهجية مسايرة للعصر دونما مساس بجوهر الوحي.
ولـمّا كان الأمر كذلك انبرى علماء العرب والمسلمين في فتح أفق معرفية محورها القرآن والسّنة، متوسّلين بعلوم أسّسوا لها من لغة العرب بنيانا، واعتمدوها معيارا لفهم النسق القرآني، فالقرآن الكريم نزل بلسان عربيّ موصوف بالإبانة غير متلبّس بإبهام ولا عُجمة ،كما جاء في محكم التنزيلﵣ بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِينٖ ١٩٥ﵢ ﵝ الشُّعَرَاء: 195ﵜ ، وكذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يُشهد له بالفصاحة والبلاغة، فقد قال فيه القاضي عياض(ت544ه): «وأمّا فصاحة اللسان، وبلاغة القول، فقد كان صلّى الله عليه وسلم من ذلك بالمحلِّ الأفضل، والموضع الذي لا يُـجهل، ...أُوتـِي جوامع الكلم، وخُصّ ببدائع الحكم، وعِلْمِ ألسنة العرب،...»[1]. وفي هذا السياق ظهرت الحاجة لعلم النحو ملّحة أمام التغيّرات الحاصلة في مسار الأمة الإسلامية وتعدّد أعراقها الناطقين بغير لغة العرب، وكما رأينا فيما سبق من محاضرات كيفية تشكّل الدرس النحوي لدى العرب ونشأته، وبدأت في عصر التدوين محطات إبستيمية تكاد تكون حكرا على الحضارة العربية الإسلامية، ومن هذه العلوم التي كانت نِتاج نظر وإعمال عقل عربي إسلاميّ؛ علم أصول الفقه الذي أنتجه العقل الفقهي، بينما نجد علما آخر نشأ متأخّرا عن هذا العلم وهو علم أصول النحو الذي أنتجه العقل النحوي، فكلّ علم طُبع ببيئته التي وُلِد فيها ونشأ.
وعلى هذا التقديم نستدعي مجموعة من التساؤلات – في إطار محاضرتنا هذه- في محاولة لـمدّ أفق التفكير، واستدعاء التراث الأصولي لعلمي الفقه والنحو[1] القاضي عياض(أبو الفضل عياض بن موسى- ت 544هـ-): الشفاء بتعريف حقوق المصطفى،ج1، تح علي محمد البجاوى، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 1984م، ص95-96.