المحاضرة التاسعة: مصر وعلاقة حكامها بالخلافة العباسية:
1- الطولونيون والإخشيديون في مصر وعلاقتهم بالعباسيين:
1-1: الدولة الطولونية254-292هـ/867- 904م)
تنسب الدولة الطولونية إلى مؤسسها أحمد بن طولون؛ وهو من أصول تركية تعود إلى مدينة بخارى في بلاد ما وراء النهر، وقد حدث أن وقع والده "طولون" في الأسر في إحدى المعارك فأهدي إلى الخليفة العباسي المأمون سنة 200هـ/ 816م، والذي ضمه إلى حاشيته حتى أصبح من كبار الحرس في قصره[1]، وحين ازداد نفوذ العناصر التركية في عهد الخليفة العباسي المعتصم بالله انتشر الولاة والأمراء في مختلف أقاليم الدولة العباسية، وعندما توفي طولون خلفه ابنه أحمد في منصبه بأمر من الخليفة المتوكل العباسي، وتزوجت والدته بالأمير التركي "بابكيال" الذي عينه الخليفة العباسي المعتز بالله واليا على مصر سنة 254هـ/ 868م، غير أنه قتل في السنة نفسها[2]، فتولى خلافته الأمير "يارجوخ" التركي، وقد كانت تربطه بابن طولون مصاهرة (زوج ابنته) فكان أن انتقل معه إلى مصر للإشراف على بعض الأعمال الإدارية، وعندما توفي يارجوخ سنة259هـ/873م اسندت ولاية مصر إلى أحمد بن طولون الذي أقره الخليفة العباسي المعتمد على الله عليها، وفي سنة263هـ/877م أعلن ابن طولون استقلاله عن الخلافة العباسية، وأضحت مصر وبلاد الشام تحت رايته، وضرب أول دينار ذهبي باسمه عرف بالدينار الأحمدي كرمز لاستقلاله كما أنه بنى عاصمة جديدة بدل الفسطاط عرفت بـ " القطائع"، وقصورا ومساجد، ومن أشهرها جامع أحمد بن طولون الذي لازالت آثاره ماثلة إلى اليوم، اعترف أحمد بن طولون بالسُلطة الروحيَّة للخليفة العبَّاسي بِصفته خليفة المُسلمين أجمعين، واستمرَّ بالدُعاء له على منابر المساجد في مصر والشَّام[3].
توفي أحمد بن طولون سنة 270هـ/884م، وخلفه ابنه خمارويه الملقب بأبي الجيش، وعندما توفي الخليفة العباسي المعتمد على الله وتولى المعتضد بالله الخلافة بادر إليه خُمارويه بالهدايا والعطايا فَجنح إلى السلم معه، كما جنح هو للسلم لإكساب دولته الصفة الشرعية، فأقره المعتضد بالله على عمله فسأله خمارويه أن يزوج ابنته أسماء المُلقبة " قطر الندى" لابنه أبو محمد علي المُكتفي باللّه؛ وهو إذ ذاك ولي العهد فَطلب المعتضد باللّه أن يتزوجها هو نفسه فتزوجها، واعترفت الخلافة العباسية بحكم خمارويه وأبنائه من بعده فكسب البيت الطولوني بذلك نفوذا كما كسبت الخلافة حليفا قويا[4].
استمر خمارويه في حكم مصر وبلاد الشام مدة 12 سنة إلى أن قتل وهو في دمشق سنة 282هـ/896م، فخلفه ابنه أبو العساكر جيش بن أبي الجيش خمارويه، وقد اضطربت أحوال البلاد في عهده بسبب قلة الأموال وانغماس أبي العساكر جيش في اللهو والمجون، وانتهى أمره بخلع قادة الجيوش له سنة 283هـ/897م، ثم قتله في السجن، وتولى أخوه هارون بن خمارويه حكم مصر وبلاد الشام بعد إجماع الجند على تقديمه وبيعته، وقد استمر في سدة الحكم إلى غاية مقتله بسبب الصراعات التي نشبت في بيت الطولونيين، وكان ذلك سنة 292هـ/906م فخلفه عمه شيبان بن أحمد بن طولون غير أنه لم يتعدى عشرة أيام حتى قتل على يد محمد بن سليمان الكاتب الذي أوفده الخليفة العباسي المستكفي بالله قطعا للفتنة الدائرة في مصر، وبمقتله انتهى حكم الطولونيين على مصر وبلاد الشام،ثمّ عين الخليفة العباسي أبا موسى عيسى النوشري واليا جديدا على مصر والشام من نفس السنة292هـ/906م، وعادت مصر ولاية تابعة للخلافة العباسية لمدة 30عاما، وكان آخر ولاتها هو مُحمَّد بن طُغج الإخشيد المملوك التُركي، الذي عيَّنهُ الخليفة العبَّاسي أبو العبَّاس مُحمَّد الراضي بالله واليًا على مصر غير أنه أعلن استقلاله عن العباسيين وأسس لقيام الدولة الإخشيدية سنة 323هـ/935م[5].
1-2: الدولة الإخشيدية: (323-358هـ/935-969م)
تنسب الإمارة الإخشيدية إلى مؤسسها: مُحمَّد بن طُغج الإخشيد؛ وهو أحد المماليك الأتراك لدى الطولونيين، عينه الخليفة العباسي الراضي بالله واليا على مصر بداية من سنة 323هـ/935م، وقد تمكن من فرض الأمن والاستقرار وصد هجمات الفاطميين على مصر فكافأه الخليفة العباسي على جهوده، وأقره على ما بيده من أراضي بلاد الشام والحجاز، ولقبه بـ"الإخشيد"؛ وقد وقع اختلاف بين المؤرخين في معناه، والراجح بينهم أنه لقب قديم كان يطلق على ملوك فرغانة (في أوزبكستان حاليا)،ويعني الملك أو الأمير أو النبيل، وكان محمد بن طغج يفضل مناداته به حتى أضحى لقبا ملازما له ولأبنائه من بعده[6].
تُوفي مُحمَّد بن طُغج الإخشيد في دمشق سنة334هـ/946م، ونُقل جُثمانه إلى بيت المقدس ودُفن هُناك، وبعد وفاة الإخشيد اشتدَّ التنافُس على تولَّي الحُكم في مصر، فقد كان الإخشيد قد ولَّى عهده قبل وفاته ابنه الأكبر أبا القاسم "أُنوجور"، البالغ 14 سنةً من العُمر، وعيَّن غُلامه "أبو المسك كافور الحبشي"[7] وصيًا عليه، وقد نال رضى الخليفة العباسي، ومعز الدولة البويهي (على اعتبار أنّ البويهيين كانوا يسيطرون في هذه الفترة على مقاليد الحكم في بغداد)، غير أنّ كافور استبد بالحكم دون صاحبه، بل أضحى يدعى له على المنابر بداية من سنة 340هـ، ويدبر أمور الدولة وسياستها بدل ولي العهد[8].
استمر هذا الوضع على ماهو عليه إلى غاية وفاة "أنوجور" سنة 349هـ/960م، فنصّب كافور علي بن محمد طغج أخو أنجور حاكما لمصر، وأقرَّهُ الخليفة العبَّاسي المُطيع لله على ولاية الديار المصريَّة والشاميَّة والثُغور والحرمين الشريفين، غير أنه استمر في الانفراد بالسلطة والإدارة ، وإبعاد علي بن محمد عن أمور السياسة والحكم إلى غاية وفاته علي بن محمد سنة 355هـ/966م، ولم ينصب كافور هذا المرة أمر البلاد المصرية لابن علي بن محمد بحكم صغر سنة، واعتلى هو سدة الحكم بمباركة من الخليفة العباسي، وعاشت الدولة الإخشيديَّة فترةً مُزدهرةً خِلال حُكم كافور، فقد حرص على أن يكون بلاطه مُلتقى العُلماء والأُدباء والشُعراء، وقد عُرف بدهائه وفطنته، واستمر إلى غاية وفاته سنة 357هـ/967م[9].
اجتمع أعيان مصر وقادتها بعد وفاة كافور وبايعوا أحمد بن علي بن الإخشيد، وكان صغيرًا في 11 من عُمره، ودُعي له على المنابر بِمصر وأعمالها والشَّام والحرمين، ولم يدم حُكمه أكثر من سنة واحدة بسبب شدَّة الاضطرابات التي قامت ضدَّ الإخشيديين، وتمكُّن الفاطميين من الاستيلاء على مصر سنة 358هـ/968م[10].
2- الدولة الفاطمية بمصر وعلاقتها بالخلافة العباسية:
اختلفت المصادر التاريخية حول صحة نسب الفاطميين وأصلهم بين مثبت لاتصال نسبهم بجعفر الصادق العلوي، وأنهم بذلك من أبناء فاطمة الزهراء رضي الله عنها، وبين منكر لذلك وأنهم من الفرس واليهود، وأنهم اختلقوا هذا النسب حتى يؤثروا في العامة للوصول إلى السلطة، وقد بسط ابن خلدون هذه الآراء وناقشها معتمدا على مختلف الروايات التاريخية، وما دونه علماء الأنساب غير أنه رجح صحة نسبتهم إلى العلويين دون أنّ يقدم أدلة تثبت ذلك، وبخاصة أنه عاش في فترة متأخرة عن الفاطميين[11].
تمكن الفاطميون بمساعدة قبيلة كتامة البربرية من تأسيس دولتهم في بلاد المغرب بعد القضاء على الرستميين والأغالبة سنة 296هـ/908م، وقد اتخذوا من مدينة المهدية عاصمة لهم، واعتنقوا المذهب الإسماعيلي الشيعي وعملوا على نشره بين الناس[12]، ثم تطلوا للاستيلاء على مصر وأخذها من يد الإخشيديين، وتمكنوا في عهد المعز لدين الله الفاطمي من فتحها سنة 358هـ/968م، وبنوا مدينة القاهرة واتخذوها عاصمة لهم، واهتموا بعمارتها ومن أشهر منجزاتهم بناء جامع الأزهر الأعظم[13].
بلغت الدولة الفاطميَّة ذُروة عزِّها وكمالها في عهد الخليفة الخامس، أبو منصور نزار العزيز بالله[14]، وإليه يُعزى تمكين السيطرة الفاطميَّة على مصر والشَّام، ونشر السلام والرَّخاء في مُختلف أرجاء الدولة، التي بلغت في عهده أقصى اتساعها[15].
كان العزيز مسؤولًا عن إرساء الدولة الفاطميَّة وتشكيل هويَّتها، إذ يمكن تشبيه دوره بدور أبي جعفر المنصور في الدولة العبَّاسيَّة، وقد بدأ عهده في سنة 365هـ/975م، وشهد عصره بعض الإنجازات العسكريَّة أيضًا، فقد قاد جوهر الصقلي عدَّة حملاتٍ على الشام والعراق، وتمكَّن خلالها من ضمّ مدن شيزر وحمص وحماه، بل وقد نجح ببلوغ الموصل وإجبار جوامعها على الدعاء للخليفة الفاطمي لفترةٍ قصيرة ، ثم خلف العزيز ابنه الحاكم بأمر الله، فاتَّبع أباه في بداية عهده، ونجح بتثبيت أركان الدولة وتهيئة أمورها[16].
على الرغم من ضعف الخلافة العباسية ووقوع خلفائها تحت الهيمنة السياسية للبويهيين الشيعة، والتهديد الفاطمي لها في مصر وجنوب الشام، فإن العباسيين جعلوا يناوئون الفاطميين ويتربصون بهم، ويشوهون صورتهم منذ مطلع القرن الخامس الهجري، ولا سيما بعد ظهور السلاجقة السُّنة على مسرح الأحداث السياسية للمشرق الإسلامي ونجاحهم في غضون سنوات قليلة من بناء دولة سُّنية قوية كانت خير سند للخلافة العباسية في صراعها ضد الفاطميين[17].
كانت بداية الهجوم العباسي السُّني على الفاطميين الشيعة يتمثل في ذلك "المحضر" الذي صدر في بغداد سنة 402هـ/1011م يقدح في نسب الفاطميين ويطعن في اتصالهم بآل البيت، وقد وقع عليه كبار العلماء والقضاة والفقهاء في بغداد، وفي سنة 444هـ/1052م صدر ببغداد منشور آخر يتضمن ما تضمنه المحضر السابق من طعن في نسب الفاطميين[18].
سعى العباسيون - بمساعدة السلاجقة - إلى تضييق الخناق على الفاطميين لإضعاف دولتهم تمهيداً لإسقاطها، وبالفعل استجاب حاكم إفريقية المعز بن باديس الزيري لتحريض العباسيين، فقطع الخطبة للفاطميين وأقامها للعباسيين سنة 441هـ/1051، بعد أن ضرب عملة جديدة خاصة به ليس عليها أسماء الفاطميين، فكانت ضربة موجعة لهم، وكذلك نجح العباسيون في تحريض الإمبراطور البيزنطي على الخلفاء الفاطميين، وعقدوا معه اتفاقاً أنهى بموجبه تموين القمح الذي كان يرسله إلى مصرمما أدى بالمستنصر الفاطمي إلى التحوط على ما في كنيسة قمامة سنة 447هـ/1055م، وأغلق أبواب كنائس مصر والشام، وطالب الرهبان بالجزية لأربع سنين، وزاد الجزية على سائر النصارى[19].
رد الفاطميون على التهديد العباسي بتوجيه جهودهم ونشاطهم وتركيزه في الشرق وخصوصاً اليمن المهد الأول للدعوة الإسماعيلية، كما سعى الفاطميون إلى منافسة العباسيين تجاريّاً من خلال السيطرة على الشاطئين الإفريقي والعربي للبحر الأحمر، وعلى المنفذ الجنوبي المؤدي إلى الهند[20].
وفي الوقت نفسه صعّد الدعاة الفاطميون المواجهة الحربية مع العباسيين، حيث قام داعي الدعاة المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي بتأييد ثورة أبي الحارث البساسيري ضد الخليفة العباسي، مستغلاً الفوضى التي اجتاحت العراق في أعقاب سقوط البويهيين، ومستعيناً بالأموال والذخائر التي أمدَّه بها الوزير اليازوري من القاهرة[21].
نجح البساسيري في الاستيلاء على بغداد وإقامة الخطبة بها للمستنصر الفاطمي لمدة عام سنة 450هـ/ 1058م وكان أول من أيده ودعا لصاحب مصر أهل الكرخ وألزم البساسيري الخليفة القائم بأمر الله العباسي بكتابة كتاب أشهد عليه العدول بأنه لا حق لبني العباس في الخلافة مع وجود بني فاطمة الزهراء، وأرسل البساسيري الكتاب إلى المستنصر في مصر، وظل محفوظاً لدى الفاطميين إلى أن أعاده صلاح الدين إلى العباسيين فور استيلائه على مقاليد الأمور في مصربعد ذلك بنحو مائة عام[22].
[1]- ينظر عن أصوله ونسبه ابن كثير، المصدر السابق، ج11، ص 292، وابن تغري بردي، أبو المحاسن جمال الدين، النجوم الزاهرة في ذكر ملوك مصر والقاهرة، ت محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1،1992م، ج3، ص ص 1-6.
[2]- ابن تغري بردي، المصدر السابق، ص ص 5-8
[3]- ابن تغري بردي، نفسه، وابن الأثير، ج6، ص 195، وجيهان محمود مأمون، الدولة الطولونية والأخشيدية بمصر، نهضة مصر للطباعة والنشر، مصر، ط1، 2009م، ص ص 6-8. وطقوش، المرجع السابق، ص 195.
[4]- طقوش، المرجع السابق، ص 202.
[5]- أورد ابن تغري بردي تفاصيل هذه الأحداث مرتبة بحسب سنواتها، المصدر السابق، ص ص 94-251.
[6]- ابن تغري بردي ، المصدر السابق ج3، ص ص 237-251.
[7]- لقب نفسه بالأستاذ وكنيته أبو المسك واسمه كافور بن عبد الله الإخشيدي الخادم الأسود الخصي، اشتراه سيده أبو بكر محمد الأخشيد بـ: 18 دينارا من الزياتين، ثم رقّاه حتى أصبح من كبار القواد، ثم آلت إليه ولاية مصر وبلاد الشام والحجاز. نفسه، ج4، ص 1.
[8]- ابن تغري بردي، نفسه ، ج4، ص 9.
[9]- ابن تغري بردي، نفسه، ص ص 9-11. ومحمد سهيل طقوش، تاريخ الفاطميين في شمالي إفريقية ومصر وبلاد الشام، دار النفائس، بيروت، ط2، 2007م، ص ص 179-194.
[10]- ابن تغري بردي، نفسه ص ص 28-32.
[11]- ابن خلدون، العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، ت خليل شحاتة وسهيل زكار، دار الفكر، بيروت، ط1، 2000م، ج4، ص ص 37-51.
[12]- ابن خلدون،نفسه، ص ص 40-51.
[13]- أيمن فؤاد السيد، الدولة الفاطمية في مصر، مكتبة الأسرة، القاهرة، ط1، 2007م، ص ص 139-147.
[14]- هو العزيز بالله صاحب مصر، أبو منصور نزار بن المعز بن إسماعيل، ولد سنة 344هـ، وفي عهده استولى الفاطميون على حلب وحماه وحمص، وكانت وفاته سنة 386هـ، الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج15، ص 359.
[15]- نفسه، ص ص 359-361.
[16]- محمد بركات البيلي، صفحات من تاريخ الدولة الفاطمية ، كلية الآداب، القاهرة، 2007م، ص ص 114-120.
[17]- طقوش، ص 242.
[18]- محمد بركات البيلي، المرجع السابق، ص ص 194-200.
[19]- محمد سهيل طقوش، تاريخ الفاطميين في شمالي إفريقية ومصر وبلاد الشام، دار النفائس، بيروت، ط2، 2007م، ص ص 103-127.
[20]- ابن الأثير، ج8، 158.
[21]- ابن الأثير، ج8، 158.
[22]- أيمن فؤاد السيد، المرجع السابق، ص ص 307-309.
- Teacher: hakmi habib
محاضرات مقياس: المشرق الإسلامي ما بين القرنين (8-15م):
من قيام الدولة العباسية إلى غاية سقوط مدينة بغداد 656هـ/1258م.
(ليسانس / السنة الثالثة: تاريخ)
المحاضرة الأولى:
قيام الدعوة العباسية: الأسباب والتداعيات.
عرفت الدولة الأموية بعد وفاة هشام بن عبد الملك سنة 125هـ/744م مرحلة خطيرة اتسمت بالاضطرابات السياسية والنزاعات داخل البيت الأموي؛ وهو ما مهد لظهور مختلف الفرق الناقمة على حكم الأمويين كالعلويين و الخوارج، وجهر بني العباس بدعوتهم بعدما تستروا عنها لسنوات طويلة، ولأجل تتبع تاريخ ظهور الدعوة العباسية يجدر بنا تفصيل الحديث عن أصل تسميتهم بالعباسيين، وأبرز الأحداث التي رافقت انتشار دعوتهم، وأشهر دعاتها.
أصل العباسيين ونسبهم:
روى النسابة والمؤرخون أنّ العباسيين يعودون في أصولهم إلى العباس بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف القرشي، وهو عّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أسنّ من الرسول بثلاث سنين وكان من أكبر رجال بني هاشم مكانة، وأكثرهم مالاً في الجاهلية فقلدوه قيادتهم، فكان رئيسهم المُطاع – بعد وفاة أبي طالب – المتوليَّ لأمورهم، وكانت إليه السَّقاية والرَّفادة وعمارة المسجد الحرام[1] ،وقد حضر بيعة العقبة مع الأنصار قبل أن يسلم وشهد بدراً مع المشركين مكرها فأسر فافتدى نفسه ورجع إلى مكة، ثم أسلم وكتم إسلامه، ثم هاجر إلى المدينة قبل الفتح بقليل وشهد فتح مكة وثبت يوم حنين مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجله ويقدره وقد كانت وفاته بالمدينة في رجب سنة 32هـ/652م ، ودُفن بالبقيع رضي الله عنه[2].
عبد الله بن عباس:
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حَبْر الأمة وترجمان القرآن، وكان يقال له الحبر والبحر لاتساع علمه وكثرة فهمه وكمال عقله وسعة فضله، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ولازم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له صلى الله عليه وسلم بالفقه في الدين وعلم التأويل، وكان عمر رضي الله عنه يجله ويكرمه، وقد شهد رضي الله عنه مع علي الجمل وصفين، وكف بصره في آخر عمره فسكن الطائف وكانت وفاته سنة68هـ/687م[3]،وقد استفاد العباسيون من انتسابهم إلى جدهم عبد الله بن عباس –حبر الأمة-، فقد سار محمد بن علي العباسي زعيم الدعوة العباسية على فقه جده .علي بن عبد الله بن عباس الإمام القانت أبو محمد الهاشمي السجاد :
هو أكبر أبناء عبد الله بن عباس، كان مولده عام قُتل علي بن أبي طالب، فتسمى باسمه، حدث عن أبيه ابن عباس، وأبي هريرة وابن عمر، وأبي سعيد وجماعة، وعدّد الذهبي روايات تسميته بالسّجَّاد وجميعها يدور حول كثرة صلاته[4].
رحلته
إلى دمشق :
أوصى عبد الله بن عباس
ابنه علياً بإتيان الشام والتنحي عن سلطان ابن الزبير إلى سلطان عبد الملك بن مروان،
ولما توفي أبوه عمل بوصيته ورحل إلى الشام واستقبله عبد الملك واحتفى به، وأسكنه
مدينة دمشق[5].
بلغ الوليد بن عبد الملك في بداية عهده أن علياً يطلب الخلافة ويتنبّأُ بانتقالها إلى بنيه فضيق عليه ونال منه وشهر به، ثم جلده وطرده من بلاد الشام، وقد تراجعت منزلة علي في عهد الوليد، وساءت حاله واضطربت وقد التمس الوليد الأسباب للانتقام منه والإضرار به فأذَّله واعتدى عليه، وجاوز القصد في ردعه ومعاقبته، فجلده مراراً ونفاه.ولما استخلف سليمان بن عبد الملك ردّه إلى دمشق، وأخلى سبيله، وأزال عنه ما لحق به من ظلم وهوان، و اعتذر إليه من تعذيب الوليد له، وتنكيله به، وأنصفه وتألفَّه فصلحت حاله واستقامت، ورجع إلى الحميمة، فأقام بها حّراً عزيزاً، وعاود فيها نشاطه لا رقيب له ولا حسيب عليه، ولما جاء عهد عمر بن عبد العزيز أمر بالكف عن اضطهاد بني هاشم، وقسم فيهم سهم ذي القربى، فانتعشوا وكتبوا إليه : يشكرون له ما فعله من صلة أرحامهم[6]. اعتنى هشام بن عبد الملك في خلافته بعلي بن عبد الله بن العباس، وأحسن إليه، وصبر على نشاطه السياسي وتغافل عنه وتغاضى عن أمله في الخلافة، واستهان بعمله للفوز بها، حتى أخطأ في تقدير خطره وقصّر عن إدراك تهديده لملك بني أمية إذ كان يهزأ بما يبلغه من أخبار نزوعه إلى الخلافة ويستخف بتوقعه لتحولها إلى بنيه، وكان ينسب ذلك إلى فساد عقله وضعف رأيه وأضغاث أحلامه في شيخوخته[7]، ويرى بعض المؤرخين أن علي بن عبد الله بن العباس كان أوّل من تبنَّى الخلافة من بني العباس وشرع في تأسيس الدعوة لهم على انتقال الخلافة إليهم، وأظهر ذلك وجهر به، هذا وقد اختلف في سنة وفاته، ورجح الكثيرون أن علي بن عبد الله بن العباس توفي عام 118ﻫ[8].
بعد وفاة علي خلفه ابنه محمد بن علي بن عبد الله بن العباس المتوفَّى سنة 125هـ/744م، وهو أنبه إخوته وأفضلهم، وهو الذي رسَّخ قواعد الدعوة لبني العباس، وشيَّد أركانها، ورفع بنيانها، فقد شمَّر لتوطيدها وبثها، فوضع أنظمتها وشعاراتها وأنشأ مجالسها واختار قادتها، ومكّن لها في الكوفة وخراسان، وشحذ عزائم أئمتها وأنصارها، وهيَّأهم ليوم إعلان الثورة والخروج[9].
الوصية بالإمامة:
ذكر جلة من المؤرخين أنّه بعد
موت محمد بن علي بن أبي طالب المشهور بابن الحنفية بالمدينة عام (81ﻫ/788م) افترق
أنصاره إلى فرقتين :
الأولى : دامت متمسكة بآرائها، فقد قالت: إنه غائب عنا لكنه حي يرزق بجبله (جبل
رضوى)[10]،
ولا بد من رجعته، فهم لا يوالون غيره، لأنهم ينتظرونه[11].
والثانية : تحولت إلى القول بإمامة ابنه عبد الله – المكنَّى بأبي هاشم من بعده،
وسميت بالفرقة الهاشمية، وتعتقد أن أمر الإمامة صار إلى أبي هاشم عبد الله بن محمد
بوصية من أبيه[12]،
وهذه الفرقة تعتبر أكبر الفرق العلوية وأبلغها تنظيماً وأكثرها حماساً، وقد عرف
أبو هاشم هذا برجاحة عقله وسعة علمه، وحسن تدبيره، ومعرفته بأحوال الفرق، ناشرا فظائع
ومظالم بعض خلفاء الدولة الأموية، وعند اقتراب أجله تنازل على الإمامة
لمحمد بن علي العباسي،وقد أكد جماعة من المؤرخين تحول دعوة أبي هاشم عبد الله بن
محمد بن الحنفية إلى العباسيين ، فيما ذكر آخرون أنها دعوة عباسية للظفر بالحكم[13]،وقد
كانت وفاته عام 98ﻫ.
المرحلة السرية للدعوة العباسية:
أخذ محمد بن علي العباسي التنظيم السري من أبي هاشم وبدأ مسار التنظيم الجديد يتغير عن القديم في بنيته الفكرية والاجتماعية، فقد جعل قرية الحميمة[14] (بالأردن) مكاناً للتخطيط والتدبير، فهي المركز الأول للدعوة والكوفة للإشراف على الدعوة، ولنقل تعاليم الإمام الصادرة من الحميمة إلى الدعاة في خراسان التي أصبحت مسرحاً للدعوة، كما أصبحت فيما بعد منطلقاً للعمل العسكري، وقد أكد محمد بن علي العباسي لقادة الدعوة، عدم ذكر اسمه، وأن تكون دعوتهم غاية في السرية، على أن يكون أبو عكرمة السراج[15] من أشهر الدعاة السريين، واحتاط لنفسه أن يبعد الشكوك التي تحوم حول الحميمة، فقد جعل دعاة خراسان يتصلون بالكوفة بدل الحميمة، حتى لا يلفت أنظار الأمويين فينكشف أمره، ولضمان السرية التامة لدعوته، فقد أمر كبار دعاته بأن يسلكوا في طريقهم إليه الطرق الرئيسية وأن يحاولوا التستر بزي التجار، كما يقللون التردد على الحميمة ما أمكن[16]، واختار أبو عكرمة السراج بعد ذلك اثنى عشر نقيباً[17]، واختار الكوفة وخراسان نقطتي انطلاق للدعوة وهو اختيار دقيق لأسباب منها:
1- أكثر الناقمين على بني
أمية من الكوفة.
2- أن خراسان تقع في مشرق الدولة وإذا اضطرت الظروف يمكن أن يفر إلى بلاد الترك
المجاورة.
3- وفي خراسان صراعات عصبية بين العرب (القيسية واليمانية) يمكن الاستفادة من هذا
الصراع لصالحه.
4- وخراسان دولة حديثة عهد بالإسلام، فيمكن التأثير في نفوس أهلها من منطلق
العاطفة والحب لآل البيت.
5- اختار الكوفة مركزًا للدعوة ويقيم فيها ما يسمى (بكبير الدعاة أو داعي الدعاة)،
وتكون خراسان هي مجال انتشار الدعوة.
تنظيم أمور الدعوة:
عمد كذلك إلى السرية التامة وكان حريصًا
عليها، تنتقل المعلومات من خراسان إلى الكوفة إلى الحميمة، ويتحرك الدعاة على شكل
تجار أو حجاج.
أول كبير للدعاة في خراسان هو أبو عكرمة السراج (أبو محمد الصادق) الذي اختار اثني عشر نقيبًا كلهم من قبائل عربية، وفيه رد على الادعاء بأن الدولة العباسية قامت على أكتاف الفرس، فكان كبير الدعاة يختار اثني عشر نقيبًا يأتمرون بأمره ولا يعرفون الإمام، من العرب المقاتلة والموالي[18].
نجحت الدعوة تدريجياً في خراسان، وبدأ يظهر رجالها، مما جعل والي خراسان يومئذ وهو أسد بن عبد الله القسري يقبض على أبي عكرمة السراج، وعدد من أصحابه فيقتلهم سنة 107هـ/725م[19].
تمكن أسد بن عبد الله سنة 118هـ/736م (كان قد عزل ثم أعيد) بخبرته أن يكشف بعض قادة التنظيم العباسي واشتد عليهم فلجأت الدعوة العباسية إلى السرية التامة من جديد، ولأن رجال الدعوة قد عرفوا هناك كان لابد من تغيير، فتم اختيار عمار بن يزيد (خداش) داعية جديدًا في خراسان، ولكن لم يكن اختيارًا موفقًا إذ أظهر بعد ذلك الكفر وانكشف أمره، وقتل على يد أسد بن عبد الله أيضًا سنة 118هـ[20].
أخلّت أفعال خداش صورة الدعوة العباسية في نفوس العامة، ولم يثقوا في الداعية الجديد، إضافةً إلى شدة والي الأمويين أسد بن عبد الله عليهم، وإلى غاية سنة 122هـ/740م كانت الدعوة تسير ببطء فلقد ظهر عائق آخر هدد الدعوة في مهدها، وهو ثورة ثورة العلويين بالكوفة، ومقتل زيد بن علي بن الحسين[21].. وكان لا بُدَّ من الهدوء ليعود الوضع على ما كان عليه.
وفي سنة 125هـ/743م توفي محمد بن علي وأوصى من بعده لابنه إبراهيم؛ ليقوم بمتابعة أمور الدعوة[22].
شكلت بداية سنة 125هـ/743م منعرجا خطيراً في تاريخ الأمويين بحيث كانت وفاة هشام بن عبد الملك فانشغلت الأسرة الأموية بصراعاتها الداخلية، بالإضافة إلى أن الدعوة العباسية بتوجيه من إمامها قررت استغلال الصراع القبلي القائم بخراسان؛ وذلك لأن والي خراسان يومئذ كان (نصر بن سيار) مضريًّا وأكثرية العرب هناك من اليمانية فكرهوه، فاتجهت الدعوة العباسية إلى اليمانية، وأثّر هذا الصراع القبلي على أحوال الناس ومصالحهم بكافة فصائلهم (اليمانيون، المضريون، أهل العلم، الفرس، الترك)، كل هذه الأحداث ساعدت الدعوة العباسية على الانتعاش من جديد[23].
أبو مسلم الخراساني وإسهامه في نشر الدعوة العباسية:
هو: عبد الرحمن بن مسلم أبو مسلم صاحب دولة بني العباس، ويقال له: أمير آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفه المؤرخ الخطيب البغدادي في تاريخه: " يقال له: عبد الرحمن بن شيرون بن اسفنديار، أبو مسلم المروزي، صاحب الدولة العباسية"[24]، وفي سنة 128هـ/746م ظهرت شخصيته القوية، وأبو مسلم الخراساني (فارسي الأصل) أحد دعاة بني العباس منذ سنوات، لاحظ فيه إبراهيم بن محمد الذكاء والكفاءة، فقرر إرساله إلى خراسان قصد نشر الدعوة والإشراف على الدعاة، حتى أصبح الداعية المتحكم في الشرق كله[25].
وفي سنة 129هـ/747موردت إلى أبي مسلم رسالة من الإمام تأمره بالظهور بالدعوة والجهر بها، ففعل ما أمر به، وكان والي خراسان يومها منشغلا بصراعات الدولة الداخلية، وفي يوم عيد الفطر صلى أبو مسلم الخرساني بالناس،وقد روى ابن عساكر في تاريخه"أن رجلا قام إلى أبي مسلم وهو يخطب فقال: ما هذا السواد الذي أرى عليك؟ فقال: حدثني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله: «أن رسول الله دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء». وهذه ثياب الهيئة وثياب الدولة،ياغلام اضرب عنقه".[26]
مرحلة الصراع المسلح:
حدث أول تصادم بين قوة بني أمية وقوة
بني العباس في خراسان، وانتصر فيها أبو مسلم على قوات نصر بن سيار ، وكثر أتباع
أبي مسلم فقد احتال في السيطرة على الأمر بدهـائه ومكره، واستعمل القوة واللين مع
خصومه، يحاربهم تارة و يوادعهم تارة أخرى حتى تمكن من السيطرة عليهم، وقد روى ابن
الأثير ما يدل على دهائه في الحروب[27].
تفاقمت الأخطار على دعاة العباسيين في الحميمة، وبعث مروان بن محمد في طلب إبراهيم بن محمد الإمام المقيم بالحميمة، فقيدوه وأرسلوه إلى الخليفة بدمشق فسجن، وفي سنة 131هـ/748م ازداد تمكن أبي مسلم من الأمر، وفر الوالي نصر بن سيار وتوفي، فدانت خراسان كلها لأبي مسلم،وفي سنة 132هـ/749م انتصرت قوات أبي مسلم على قوات العراق ثم توجه إلى الكوفة والتي كان قد خرج بها محمد بن خالد بن عبد الله القسري داعيًا لبني العباس، وفي ذات السنة مات إبراهيم بن محمد في سجن مروان بن محمد، وأوصى بالخلافة بعده لأخيه عبد الله بن محمد (السفاح)، وبالفعل اختير السفاح أول خليفة لبني العباس في ربيع الآخر سنة 132هـ/749م[28].
معركة الزاب الكبرى:
تعتبر هذه المعركة من أشهر المعارك الحاسمة التي خاضها العباسيون في مواجهتهم للأمويين، وهي تعرف أيضابـ"معركة الزاب الأعلى"، وقعت في 11من جمادى الآخرة عام 132 هـ الموافق 25 يناير750مقرب نهر الزاب الأكبر وهو أحد روافد نهر دجلة، ويقع في شمال العراق، وقعت المعركة بين الخليفة الأموي مروان بن محمد وعبد الله بن علي، حيث التقى الجيشان في منطقة الزاب بين الموصل وأربيل، وانهزم جيش مروان وفر إلى مصر حيث قُتل هناك فكان آخر خلفاء بني أمية في الشام، وبمقتله سقطت الخلافة الأموية[29]،ولذلك تعد إحدى المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي.
المحاضرة الثانية: قيام الدولة العباسي وظهور أول خلفائها:
خلافة السفاح عبد الله بن محمد العباسي :(من
ربيع الآخر 132هـ حتى ذي الحجة136هـ):
ذكر المؤرخون أنّ السفاح ولد بالحميمة ونشأ بها، ثم لما أخذ مروان أخاه إبراهيم
انتقل أهله إلى الكوفة فانتقل معهم، ويقال له أيضًا: المرتضى والقاسم[30]،ولما
آلت إليه الخلافة استقر بمدينة الكوفة،وبالغ في إكرام أهلها حتى يضمن ولاءهم في
حاضرته الجديدة ومع طلط كان يصف نفسه بالسفاح لإخافة خصومه فقد كان شديد البطش
والتنكيل بمن يخرج عن طاعته[31]،
وكان جُلُّ اعتماده على:
1- أبو مسلم الخراساني
بالمشرق.
2- أخوه أبو جعفر المنصور بالجزيرة وأرمينية والعراق.
3- عمه عبد الله بن علي بالشام ومصر.
الملاحظ أنّ معظم عمال السفاح وولاته كانوا من أعمامه وبني أعمامه[32]، وعَهِد السفاح من بعده إلى أخيه أبي جعفر المنصور ومن بعده إلى ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي، ولم تطل أيامه، فقد أصيب بالجدري فمات سنة 136هـ/753م، ولم تستقر له الأمور بصورة تامة[33].
[1]- ابن سعد، الطبقات الكبير، ت علي محمد عمر، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط1، 2001م، ج4 ص 5.
[2]- ابن سعد، المصدر السابق، ص ص 25-30.
[3]- المصدر نفسه، ج6 ص ص 320-345.
[4]- الذهبي، سير أعلام النبلاء، ت شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط11، 1996م، ج5، ص 252.
[5]- المقريزي، تاريخ المقريزي الكبير المسمى المقفى الكبير، ت محمد عثمان، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2010م، ج4، ص331.
[6]- ابن سعد، المصدر السابق، ج5، ص 381.
[7]- حسين عطوان، الدعوة العباسية تاريخ وتطور، دار الجيل، بيروت ط1، 1995م، ص 38.
[8]- ينظر الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ت محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، مصر، ط2، 1964م، ج6، ص 111، والذهبي، المصدر السابق، ج5،ص 252.
[9]- تنظر تفاصيل أخباره وصفاته ومناقبه عند صاحب كتاب أخبار الدولة العباسية، مؤلف مجهول من القرن الثالث الهجري، ت عبد العزيز الدوري وعبد الجبار المطلبي، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1971م، ص ص160-171، و ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ت عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، 2012م، ج4، ص ص 247-248.
[10]- رضوى جبل ضخم من جبال تهامة؛ وهو من ينبع على يوم ، ومن المدينة على تسع مراحل، وهو جبل منيف ذو شعاب وأودية. ابن عبد المنعم الحميري، الروض المعطار في خبر الأقطار، ت إحسان عباس، مكتبة لبنان، بيروت، ط2، 1984م، ص 269.
[11]- المصدر السابق، ص 269.
[12]- الذهبي، المصدر السابق، ج4، ص129.
[13]- مؤلف مجهول، المصدر السابق، ص ص 186-190، والذهبي، المصدر السابق، ج4، ص ص 129-130. وابن كثير، البداية والنهاية، ت مأمون محمد سعيد الصاغرجي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، ط1، 2015م، ج10، ص ص 215.
[14]- لفظ تصغير للحمة، بلد من أرض الشراة، من أعمال عمّان في أطراف الشام، كان منزل بني العباس. ياقوت الحموي، معجم البلدان، (د ت)، دار صادر بيروت، ط1، 1979م، ص 307.
[15]- يكنى أبا محمد واسمه الصادق غير أنه غلب عليه شهرته بأبي عكرمة السراج، أحد نقباء الدعوة العباسية إلى خرسان، ابن كثير، المصدر السابق، ج9، ص 388.
[16]- محمد سهيل طقوش، تاريخ الدولة العباسية، دار النفائس، بيروت، ط7، 2009م، ص ص 19-20.
[17]- ابن كثير، المصدر السابق، ج9، ص 307.
[18]- محمد سهيل طقوش، المرجع السابق، ص 20.
[19]- محمد الخضري بك، محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية، مراجعة نجوى عباس، مؤسسة المختار، القاهرة، ط1، 2003م، ص 20.
[20]- المرجع نفسه، ص 20.
[21]- ابن الأثير، المصدر السابق، ج4، ص ص 266-267.
[22]- ابن كثير، المصدر السابق، ج10، ص 216، محمد سهيل طقوش، المرجع السابق، ص 22.
[23]- محمد الخضري بك، المرجع السابق، ص 22.
[24]- ابن كثير، نفسه، ج10، ص 249.
[25]- محمد سهيل طقوش، المرجع السابق، ص 23.
[26]- ابن كثر، نقلا عن ابن عساكر، المصدر السابق، ج10، ص 297.
[27]- ابن الأثير، المصدر السابق، ج4، ص ص 366-370.
[28]- الطبري، المصدر السابق، ج7، ص ص 432-435.
[29]- ينظر تفاصيل هذه المعركة عند ابن الأثير، المصدر السابق، ج5، ص ص 69-71.
[30]- ابن كثير، المصدر السابق، ج10، ص 285.
[31]- جلال الدين السيوطي، تاريخ الخلفاء، وزرارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، ط2، 2013م، ص ص 418-420.
[32]- تنظر أسماء عماله وولاته عند ابن الخياط، تاريخ خليفة بن خياط، ت أكرم ضياء العمري، دار طيبة، الرياض، ط2، 1985م، ص ص 412-414.
[33]- المصدر السابق، ص 419.
المحاضرة الثانية: قيام الدولة العباسي وظهور أول خلفائها:
خلافة السفاح عبد الله بن محمد العباسي(من ربيع الآخر 132هـ حتى
ذي الحجة136هـ):
ذكر المؤرخون أنّ السفاح ولد بالحميمة ونشأ بها، ثم لما أخذ مروان أخاه إبراهيم
انتقل أهله إلى الكوفة فانتقل معهم، ويقال له أيضًا: المرتضى والقاسم[1]،ولما
آلت إليه الخلافة استقر بمدينة الكوفة، وبالغ في إكرام أهلها حتى يضمن ولاءهم في
حاضرته الجديدة ومع ذلك كان يصف نفسه بالسفاح لإخافة خصومه فقد كان شديد البطش
والتنكيل بمن يخرج عن طاعته[2]،
وكان جُلُّ اعتماده على:
1- أبو مسلم الخراساني
بالمشرق.
2- أخوه أبو جعفر المنصور بالجزيرة وأرمينية والعراق.
3- عمه عبد الله بن علي بالشام ومصر.
الملاحظ أنّ معظم عمال السفاح وولاته كانوا من أعمامه وبني أعمامه[3]، وعَهِد السفاح من بعده إلى أخيه أبي جعفر المنصور ومن بعده إلى ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي، ولم تطل أيامه، فقد أصيب بالجدري فمات سنة 136هـ/753م، ولم تستقر له الأمور بصورة تامة[4].
خلافة أبي جعفر المنصور:
هو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، وهو أكبر من أخيه إبراهيم بست سنين إلا أن أخاه إبراهيم حين قبض عليه جند مروان بن محمد سلم الإمامة لأبي العباس، ولد أبو جعفر المنصور في الحميمة سنة 95هـ/713م، وأمه أم ولد من أصول بربرية اسمها " سلامة"[5].
أبو جعفر المنصور في مواجهة التحديات:
لما تولى المنصور الخلافة (من ذي الحجة 136هـ/753م حتى ذي الحجة 158هـ/775م) وضع نصب عينيه مخاطر ثلاث لا بُدَّ أن يقضي عليها.
*منافسة عمه عبد الله بن علي له في الأمر، وقد كان موكلاً بتدبير جيوش الدولة من أهل خراسان والشام والجزيرة والموصل ليغزو بهم الروم، فأرسل إليه أبو جعفر جيشًا بقيادة أبي مسلم الخراساني فالتقوا عند حران[6] ودارت معركة بين الفريقين لمدة ستة أشهر وظلت المعركة سجالاً ثم تحولت إلى أبي مسلم الذي انتصر، وفر عبد الله بن علي إلى البصرة عند أخيه سليمان فعلم بذلك أبو جعفر فبعث إلى أبي سليمان يأمره بإحضار عبد الله بن علي إليه، وأعطاه الأمان لعبد الله ما جعله يثق به، فجيء به إلى المنصور سنة 139هـ/756م، فأمر بحبسه وحبس من كان معه وظل في حبسه حتى مات سنة147هـ/764م[7].
* اتساع نفوذ أبي مسلم الخراساني؛وهو أحد أعمدة الدولة العباسية غير أنّ أبا جعفر المنصور كان شديد الحنق عليه، لا يرضيه أن يكون له في الأمر شريك ذو سطوة وسلطان،وعلى الرغم من تردد أبي مسلم في الذهاب إلى المنصور إلا أنه قرر في الأخير الذهاب لمقابلته بحيث تمادى أبو جعفر في المكر فأعطاه الأمان، وأظهر له عند دخوله المدائن ( مدينة بالقرب من بغداد) الاحترام والتقدير ومراسم الاستقبال، ولكنه كان عازمًا على قتل أبي مسلم غدرًا، وبالفعل قتله وهو يكلمه آمنًا على يد بعض حراسه سنة137هـ/754م[8].
* بنو عمومته من آل علي بن أبي طالب (العلويين)، لاسيما محمد بن عبد الله بن حسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، الذي خرج على طاعة أبي جعفر المنصور وثار عليه، ولذا لاحق العلويين بالتعذيب والسجن والقتل[9].
بناء مدينة بغداد:
ذكر المؤرخون أن أبا جعفر المنصور كان قد بنى مدينة بالقرب من الكوفة وأطلق عليها تسمية الهاشمية، ثم كره مجاورة الكوفيين، إضافة إلى ثورة الراونديين الذين حاصروها، ففكر في بناء مدينة أخرى بعيدة عن الكوفة بالقرب من نهر دجلة على موقع قرية قديمة[10] يعود تاريخها إلى ما قبل الميلاد زمن الحضارة البابلية[11].
اختلف مؤرخو مدينة بغداد حتى في معنى اسمها على عدة أقوال؛ ومنها: (مدينة السلام)، فرأى بعضهم أن المقصود بالسلام هو الله سبحانه، ويرى البعض الآخر أن المنصور سماها مدينة السلام لأن نهر دجلة يقال له (وادي السلام)[12]، ويرى بعضهم الآخر أن المنصور سماها (مدينة السلام) تفاؤلاً في أنها ستكون آمنة مطمئنة، وفيها يظهر الأثر الفارسي واضحا في تخطيطها[13]، أما مدينة المنصور ومدينة الخلفاء والمدينة المدورة والزوراء فهي أوصاف لبغداد استخدمها الخاصة والعامة في نعت المدينة ، فتسمية (مدينة المنصور) هي تعريف للمدينة بإضافتها إلى بانيها، وكذلك (مدينة الخلفاء) تعريف لها بإضافتها إلى ساكنيها بعد تعاقب عدد من الخلفاء العباسيين على الإقامة فيها، و(المدينة المدورة) نعت للمدينة يميزها عن غيرها من المدن ، ظناً من الناعتين بأنها المدينة الوحيدة التي بنيت على شكل دائرة، و(الزوراء) نعت كذلك أطلق عليها لأن الأبواب الداخلية لأسوارها مزورة عن الأبواب الخارجية، أي ليست على سمتها[14].
وبنى حول بغداد سوراً، وجعل المنصور عرض السور من أساسه خمسين ذراعاً ومن أعلاه عشرين ذراعاً، ووضع بيده أول لبنة وقال : " بسم الله والحمد لله، الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقينً، ثم قال: "ابنوا فابتدأ بها في سنة 145هـ، وأتمها سنة 146هـ، وجعلها مدورة وجعل قصره في وسطها؛ لئلا يكون أحد أقرب إليه من الآخر، وبلغ الخرج عليها أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثة وثلاثين درهماً"[15].
أهم الأعمال السياسية والاقتصادية والفكرية للمنصور:
- القضاء على الثورات والاضطرابات الداخلية ( الراوندية القائلين بالتناسخ، والخوارج، والعلويين )، ونشر الأمن والاستقرار في أرجاء الخلافة.
- بناء بغداد المدينة المدورة وجعلها عاصمة للخلافة العباسية.
- تشجيعه لمجالس العلم والأدب وتقريبه للعلماء والأُدباء(إنشاء بيت الحكمة في قصر الخلافة، وهو بمثابة مكتبة تمت فيه ترجمة الكتب الإغريقية والفارسية إلى اللغة العربية)[16].
- في عهده شرع علماء الإسلام في تدوين الحديث والفقه والتفسير.
- الاهتمام بالأمور المالية والإدارية للدولة وجعل الإدارة مركزية.
-الاهتمام بالجيش وتسليحهُ تسليحاً جيداً، والإنفاق لأجل حماية الثغور ويقصد بها المناطق
الحدودية للدولة والمتاخمة لأراضي أعداء الإسلام[17].
من إسهامات أبي جعفر المنصور في الجانب الزراعي هو إلغاؤه للضريبة النقدية التي كانت تفرض على الحبوب، وحل محلها نظام (المقاسمة)؛ وهو دفع الضرائب بنسبة خاصة من المحصول، وقد أقطع أبو جعفر المنصور بعض أعيان دولته قطائع من الأرض ببغداد يعمرونها ويسكنونها ويحصلون على غلتها مكافأة لهم على ما قدموه من الخدمات الجليلة، وكان يقتصد في النفقات، ويصادر أموال عماله الخائنين ليسترجع ما أخذوه من أموال الدولة، إضافة إلى الاهتمام بالصناعة ومختلف الحرف[18].
وصية أبي جعفر المنصور لولده وولي عهده المهدي، قال:
"ولدت في ذي الحجة، ووليت في ذي الحجة، وقد هجس في نفسي أني أموت في ذي الحجة من هذه السنة، وإنما حداني على الحج ذلك، فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي يجعل لك في كربك وحزنك فرجا ومخرجا، ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب، يا بني: احفظ محمدا في أمته يحفظك الله، وإياك والدم الحرام؛ فإنه حوب(إثم) عند الله،...والتزم الحدود فإن فيها خلاصك...فالسلطان يا بني حبل الله المتين... واحكم بالعدل ولا تشطط، وإياك والأثرة والتبذير لأموال الرعية، واشحن الثغور، واضبط الأطراف، وأمن السبل، وسكن العامة...وأعد الأموال واخزنها وإياك والتبذير؛ فإن النوائب غير مأمونة...وأعد رجالا بالليل لمعرفة ما يكون في النهار، ورجالا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل، وباشر الأمور بنفسك واستعمل حسن الظن بربك وأسئ الظن بعمالك وكتابك...يا بني لا يصلح السلطان إلا بالتقوى، ولا تصلح الرعية إلا بالطاعة، ولا يعمر البلاد بمثل العدل، هذه وصيتي إليك، والله خليفتي عليك"[19].
وفـاتــه: تـوفي أبو جعفـر المنصور وهـو في طـريقه للحـج في 6 مـن ذي الحجة سنـة 158هـ/636م، ودفن بمكة[20].
[1]- ابن كثير، المصدر السابق، ج10، ص 285.
[2]- جلال الدين السيوطي، تاريخ الخلفاء، وزرارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، ط2، 2013م، ص ص 418-420.
[3]- تنظر أسماء عماله وولاته عند ابن الخياط، تاريخ خليفة بن خياط، ت أكرم ضياء العمري، دار طيبة، الرياض، ط2، 1985م، ص ص 412-414.
[4]- المصدر السابق، ص 419.
[5]- الذهبي، المصدر السابق، ج7، ص 83.
[6]- مدينة في جنوب شرق تركيا، تسمى حاليا(Harran)، وورد التعريف بها في المصادر الجغرافية بأنها مدينة من ديار مضر، وهي تقع على أحد روافد نهر الفرات، ابن عبد المنعم الحميري، المصدر السابق، ص 191.
[7]- الطبري، المصدر السابق، ج7، ص ص 475-478.
[8]- ابن خياط، المصدر السابق، ص 416، وابن الأثير، المصدر السابق، ج5، ص ص 56-62، وابن أيبك أبو بكر الدواداري، الدرة السنية في اخبار الدولة العباسية، ت تدروتياكرافولسكي، بيروت، ط1، 1992م، ج5، ص 19.
[9]- اورد ابن الاثير تفاصيل ما جرى بين المنصور والعلويين من نزاعات وخصومات فلتنظر هناك، المصدر السابق، ج5، ص ص 109-121، ومحمد سهيل طقوش، المرجع السابق، ص 56.
[10]- تنظر اخبار بناء مدينة بغداد عند الطبري، المصدر السابق، ج7، ص ص 416-422، وابن الأثير ، المصدر السابق، ج5، ص ص 132-134.
[11]- ابن رستة، أبو علي أحمد بن عمر، الأعلاق النفيسة، دار صادر، بيروت، ط1، 1892م، ج7، ص 108.
[12]- ابن عبد المنعم الحميري، المصدر السابق، ص 111، و ياقوت الحموي، أبو عبد الله ياقوت الرومي البغدادي، معجم البلدان، دار صادر، بيروت، ط1، 1977م، ج1، ص 456.
[13]- محمد سهيل طقوش، المرجع السابق، ص 72.
[14]- ينظر عن مسمياتها: ابن طباطبا، محمد بن علي، الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية، (دت) دار صادر، بيروت، ط1، 1990م، ص 163، وياقوت الحموي، المصدر السابق، ج1، ص ص 456-457، وابن عبد المنعم الحميري، المصدر السابق، ص 111.
[15]- ابن طباطبا، المصدر السابق، ص 163.
[16]- خضر أحمد عطا الله، بيت الحكمة في عصر العباسيين، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1979م، ص 42.
[17]- محمد عبد الحفيظ المناصير، الجيش في العصر العباسي الأول، دار مجدلاوي، عمان، ط1، 2000م، ص ص 74- 83.
[18]- عبد العزيز الدوري، العصر العباسي الأول دراسة في التاريخ السياسي والإداري والمالي، دار الطليعة بيروت، ط3، 1997م، ص80.
[19]- الطبري، المصدر السابق، ج8، ص ص 105-106.
[20]- المصدر نفسه، ص 108.
المحاضرة الثالثة:خلافة المهدي بالله: (158هـ-169هـ/636م-647م)
يكنى أبا عبد الله، واسمه محمد بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي الملقب بالمهدي بالله؛ وهو ثالث خلفاء الدولة العباسية، ولد بإيذج[1](بإيران حاليا) من مدن الأهواز، وقيل بالحميمة عام 127هـ/744م ، وأمه أم موسى الحميرية، تولى الخلافة بعد وفاة والده سنة158هـ/636م، وكان حينها واليا على طبرستان[2] (شمال إيران حاليا)، ومن صفاته أنه كان محمودا محببا إلى الرعية، جوادا، وفي عهده فتحت إربد في الهند[3].
حكم المهدي لمدة عشر (10) سنوات، وقد ازدهرت في عهده مدينة بغداد، وازداد نفوذ البرامكة ( أسرة من أصول فارسية).
أهم أعمال وإنجازات المهدي:
أشهر الأعمال السياسية والحضارية التي عرفتها منطقة المشرق الإسلامي في عهد المهدي كانت بدايتها في عصر والده المنصور؛ ومنها: خروجه لتأديب عبد الجبار الخارجي الذي ثار في خرسان سنة 141هـ/758م، وتمكنه منه، وعندما بلغه وفاة أبيه خطب في الناس بجامع بغداد: " ّإن أمير المؤمنين عبد دعا فأجاب، وأمر فأطاع، - وغرورقت عيناه- فقال : قد بكى رسول الله عند فراق الأحبة، ولقد فارقت عظيما، وقلدت جسيما، فعند الله أحتسب أمير المزمنين، وبه أستعين على خلافة المسلمين"[4]، وواجه في بداية عهده ثورة الخارجين على طاعته في خرسان وغيرها، كما حارب الروم وردهم عن ثغور المسلمين..
ثورة المقنع في خرسان:
في سنة 159هـ/775م خرج المقنع بخرسان، وكان رجلا أعور قصير قد وضع قناعا من الذهب على وجهه حتى لا يرى وجهه، ادعى الألوهية والضلال،وقد تمكن المهدي منه، كما قمع ثورة يوسف البرم في خرسان سنة160هـ/776م[5]، وفي سنة 163هـ/779م خرج لمحاربة الروم مع ابنه هارون الرشيد، واستطاع أن يعقد معهم معاهدة على أن يقدموا الفدية ألف دينار كل سنة[6]، وقد عقد البيعة لابنيه موسى الهادي، ثم هارون الرشيد من بعده، وتوفي المهدي سنة 169هـ/785م، وهو ابن 43 سنة، واختلف المؤرخون في سبب وفاته، فهناك من ذكر أنه سقط من فرسه، وهناك من قال أنه مات مسموما، وصلى عليه ابنه الرشيد[7].
خلافة موسى الهادي:
هو أبو محمد موسى بن محمد بن عبد الله بن محمد الملقب بالهادي رابع خلفاء بني العباس، ولد بالري[8](جنوب طهران حاليا) سنة144هـ/761م، وولي بالخلافة بعد وفاة أبيه المهدي سنة169هـ/785م، كان الهادي أديبا فصيحا، في عهده ثار الحسين بن علي بن الحسن حفيد العلويين في المدينة، وتمكن من قتله والقضاء على ثورته، غير أن ابن عمه إدريس هرب إلى المغرب[9].
اختلف في سبب وفاته فقيل أنها كانت طبيعية، وقيل أنه عزم على خلع أخيه هارون الرشيد على أن يعقد البيعة لابنه جعفر فقامت أم الرشيد الخيزران مع جواريها بقتله[10]، وكانت وفاته سنة170هـ/786م.
*الخلافة العباسية في عهد هارون الرشيد: (170-193هـ/786-809م).
هو خامس خلفاء الدولة العباسية،واسمه هارون الرشيد بن محمد المهدي، وكنيته أبو جعفر، ولد سنة147هـ/763م بمدينة الري (إيران)، وأمه أم ولد اسمها الخيزران[11]، وقد تلقى الرشيد تربية صارمة في صغره، واختار له والده اشهر المؤدبين فتثقف ثقافة عربية وإسلامية واسعة، وجمع إلى عقله الراجح أدبا رفيعا، بالإضافة إلى الفروسية وقيادة الجيوش، وقد اكتسب شجاعة المحارب وهو فتى صغير؛ حيث جعله والده المهدي بالله أميرا على إحدى حملات الصائفة على البيزنطيين فأظهر كفاءة القائد المحنك، كما عينه واليا على المنطقة الغربية للدولة العباسية والتي كانت تعرف بالمغرب من الأنبار إلى إفريقية[12].
ولايته للعهد:
لقد شاب قضية ولاية العهد في خلافة المهدي الكثير من التعقيدات، وأتى المؤرخ ابن الأثير على مختلف رواياتها، إذ بالرغم من أنها عقدت لأخيه الأكبر منه سنا وهو الهادي، وأن يتولى الرشيد بعده إلا أن والده كان يميل إليه ويقدمه عليه لما ظهر من شجاعته وحنكته، وبعد وفاة والده تولى الهادي خلافة الدولة، غير أنه لم يحكم طويلا حيث كانت وفاته سنة170هـ/786م، وفي وفاته اختلاف بين المؤرخين ومعظم الروايات تدور حول محاولة الهادي تغير نص البيعة بتعين ولده مكان الرشيد، ولولا مساعدة وزيره يحي بن خالد البرمكي[13] لما تمكن منها، وفي رواية أنّ والدته الخيزران وضعت له السم بمعاونة جواريها في قصره[14] .
تولى الرشيد خلافة الدولة العباسية سنة 147هـ/663م، واستمر حكمه لأزيد من 23 سنة إلى غاية سنة193هـ/809م.
العلوم والفنون في المشرق الإسلامي على عهد هارون الرشيد:
عرفت الدولة العباسية في عهد الرشيد أوج تطورها الاقتصادي وازدهارها الفكري والعمراني، وغدت عاصمته بغداد حاضرة الدنيا ومحج العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء، وكل طالب علم ومعرفة، وفي جانب الحياة العلمية عمرت مساجد بغداد وجميع حواضر المشرق كالبصرة والكوفة ومصر ومكة وخرسان وغيرها بحلقات العلم[15]؛ فكان الطلبة يرحلون في طلبه بأعداد كبيرة في مختلف مناطق الدولة شرقا وغربا[16]، ومن أشهر هؤلاء الكسائي والأصمعي والإمام مالك والشافعي وغيرهم، وذاع صيت بيت الحكمة، و نسخت الكتب وانتشرت الترجمة، وتنافس العلماء في مختلف العلوم (كالهندسة والرياضيات والفلك والطب والكيمياء، وغيرها من العلوم العقلية والنقلية)، وتطورت الصناعة وكثر اهتمام الناس بالابتكارات( صناعة النسيج وخرز الحرير، وصناعة الأواني والحلي والأسلحة، وراجت صناعة الورق الذي كان يحمل إلى القسطنطينية[17] (اسطنبول حاليا)، وبلاد المغرب والأندلس، ومن أشهر هذه الاختراعات: الساعة المائية (Water clock) التي ذكرتها بعض المصادر الأجنبية، وذكرت أن هارون الرشيد أهدى واحدة منها إلى شارلمان (Charlemagne)[18].
اهتم الرشيد بالعمارة الإسلامية على اختلاف أنواعها؛ فبنى القصور والحصون والمساجد والجسور والقناطر، وشحن الثغور وعبد الطرقات والمسالك، ومد قنوات السقي وشبكات الري فشجع المزارعين على خدمة أراضيهم وتنويع محاصيلهم، وارتقى أهل الصنائع بحرفهم؛ وهو ما أسهم في رواج التجارة البرية والبحرية، وتنظيم الإتاوات والضرائب على التجار مقابل تأمين سلامتهم وسلامة تجارتهم، و راجت عبارة "عصر الرشيد" بين التجار والعامة من الناس فقد كانت شخصيته تمثل تاريخ عصر أكثر مما تمثل تاريخ إنسان[19].
الأوضاع الداخلية للدولة العباسية في عهد الرشيد:
استهل الرشيد خلافته بالعفو عن المغضوب عليهم زمن خلافة اخيه الهادي، غير أنه اصطدم بجملة من الاضطرابات الداخلية والتي استمرت منذ الدولة الأموية ولم تنقطع جذوتها تاريخيا، متمثلة في الصراع مع العلويين أبناء الإمام علي بن أبي طالب والخوارج، وما كان منه إلا أن ضيق الخناق على العلويين وشتت شملهم؛ وأسس ادريس بن عبد الله بن الحسن إمارة في بلاد المغرب التي كان قد فرّ إليها في عهد الهادي، وآثر الاستقرار بالمغرب الأقصى، بينما اتجه أخوه يحي إلى بلاد الديلم بعيدا عن ركز الخلافة[20]، وعلى الرغم من محاولات الرشيد في القضاء على دولة الأدارسة إلا أن الظروف حالت دون تمكنه منها، إضافة إلى تعدد الدول المستقلة في المغرب (تيهرت، وسجلماسة).
*مواجهة الرشيد للخوارج:
تصدى هارون الرشيد لثورات الخارجين على سلطانه في بلاد المشرق والمغرب، غير أن شوكتهم اشتدت أكثر في بلاد المغرب، وتمكنوا من تأسيس دول مستقلة عن الخلافة العباسية، وهو ما جعله يعين إبراهيم بن الأغلب[21] واليا على إفريقية وما جاورها سنة 184هـ/800م، من أجل السيطرة عليها وإبقاء ولائها للعباسيين[22].
وأما في بلاد المشرق، وبحكم قرب عاصمة الرشيد من المناطق التي ثار فيها الخوارج (المدينة وأرمينية وأذربيجان وخرسان)، إلا أنها لم تشكل خطرا كبيرا على أمن الخلافة؛ بحيث تمكن الرشيد من إخمادها جميعا بحكم إصراره على مواجهتم بحزم وقوة[23].
*نكبة البرامكة:
يعود سبب تسميتهم بالبرامكة إلى الجد الأعلى لهذه الأسرة ذات الأصول الفارسية وهو برمك، وقد اختلف في تفسير معناه بالفارسية إلا أن الراجح من أقوال المؤرخين أن هذا اللقب كان يطلق قديما على خادم المعابد المجوسية في مدينة بلخ (سادن المعبد)[24]، ولأن الدعوة العباسية اعتمدت بشكل ملفت على العناصر الأساسية الفارسية في بداية أمرها كأبي مسلم الخرساني وغيره، فكان لابد أن تظهر شخصيات فارسية أخرى عرفت بولائها للعباسيين وتفانيها في خدمتهم، ومن هؤلاء خالد بن برمك الذي قلده أبو العباس السفاح ديوان الخراج والجند كما عمل في خدمة المنصور[25].
أنجب خالد ابنا نشأ في القصور و تربى تربية الأمراء والملوك، وهو يحي الذي تمكن من بلوغ مراتب عليا في الدولة، وقد وقف إلى جانب الرشيد في مراحل خلافته، وبخاصة في مواجهة الهادي، وقد حفظ الرشيد هذه المواقف والخدمات ليحي ومكنه هو وأولاده الفضل وجعفر من الوزارة والنيابة عنه[26](وزارة تفويض)،وقد تمكن يحي من إدارة الدولة والتحكم في مقاليدها بالاستعانة بولديه الفضل وجعفر، واهتم البرامكة بالمناطق الشرقية (خرسان وطبرستان وأرمينية وبلاد ما وراء النهر(، وتمكنوا من بناء القصور والمساجد و المدارس،وإغداء العطاء للعمال وموظفي الدولة حتى غدت منطقة خرسان وما والاها بيدهم، و تمكن جعفر من إدارة الجزيرة والشام ومصر وإفريقية، وذاع صيت البرامكة بين الرعية، وآل إليهم الأمر دون الرشيد في جميع أصقاع الخلافة، إلا أن الرشيد نكبهم وأطاح بهم جميعا في ليلة واحدة، وتمكن من سجنهم،وقتل أعوانهم (فمات يحي والفضل بالسجن)، وأنهى بذلك سطوتهم[27]، وقد اختلف المؤرخون في تحديد السبب المباشر لهذه النكبة حيث إن الرشيد أحاطها بالسرية التامة، وعند وفاة الرشيد هم المأمون بالعفو عمن بقي منهم[28].
المحاضرة الرابعة: ولاية العهد بعد الرشيد والصراع بين الأمين والمامون:
خلّف الرشيد من الأولاد الذكور– الذين آلت إليهم الخلافة من بعده-عبد الله المأمون وهو الأكبر سنا من زوجته مراجل وهي أم ولد من أصول فارسية، ومحمد الأمين وأمه زبيدة بنت جعفر بن المنصور، والمعتصم أمه أيضا أم ولد اسمها ماردة من أصول تركية[29].
ولأن الرشيد عقد البيعة لابنه الأصغر سنا محمد الأمين إلا أن البرامكة كانوا يسعون لتقديم المأمون حتى تمكنوا من ذلك؛ فعهد الرشيد بالخلافة للمأمون بعد أخيه الأمين[30].
* الصراع بين الأمين والمأمون:
أقر هارون الرشيد بعهد الخلافة لابنه الأمين، على أن يتولى المأمون بعده ثم المعتصم، وقد نصّت البيعة على أن يقر كل طرف على ما في يده من مناطق؛ حيث يتولى الأمين العراق ومصر والحجاز وما جاورها، وأن تكون مدينة بغداد قاعدة ملكه، ويتولى المأمون المنطقة الشرقية وقاعدتها خرسان وهمذان وما والاهما، ومن بعده تكون الولاية لابنه القاسم المؤتمن الذي قطع له الجزيرة وما والاها[31].
خلف محمد الأمين والده بعد وفاته سنة193هـ/809م إلى غاية سنة 198هـ/814م، ودامت فترة حكمه خمس سنوات تقريبا، وأهم ما ميز عهده هو النزاع الذي قام بينه وبين أخيه المأمون،وسببه أن الأمين أقدم على خلع أخيه من ولاية العهد وعين ابنه موسى الملقب "الناطق بالحق"وليا للعهد، وقد كان هذا النزاع استمرارا للصراع القائم بين العرب والفرس في تاريخ الدولة العباسية، وكان يمثل الحزب العربي الأمين ووزيره الفضل بن الربيع، أما الحزب الفارسي فكان يمثله المأمون ووزيره الفضل بن سهل، وقد فصّل المسعودي وابن الأثير في أخبار هذه الفتنة بين الأخوين، وخلاصتها أنّ النزاع بين الأمين والمأمون مرعلى مرحلتين، المرحلة الأولى كانت دبلوماسية سلمية انتهت سنة 195هـ/811م، والمرحلة الثانية كانت مرحلة حرب انتهت بحصار المأمون لمدينة بغداد بقيادة طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين وانتهت بمقتل الأمين سنة198هـ/814م[32].
[1]- بلدة بين خوزستان وأصبهان؛ وهي بين سلسلة من الجبال يقع بها ثلج كثير، وهي كثيرة الزلازل وبها معادن كثيرة، ياقوت الحموي، المصدر السابق، ج1، ص 288.
[2]- إقليم واسع، وهي بلدان كثيرة يشملها هذا الاسم، والغالب على هذه النواحي الجبال، وهي كثيرة المياه والاشجار، نفسه،ج4، ص 13.
[3]- الذهبي، المصدر السابق، ج7، ص ص 400-401.
[4]- ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ت محمد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط3، 2011م، ج8، ص ص 208-209.
[5]- ابن الأثير، المصدر السابق، ج5، ص 211.
[6]- نفسه، ص 232.
[7]- نفسه، ص ص 241-254.
[8]- مدينة مشهورة من أنهات البلاد وأعلام المدن، كثيرة الفواكه والخيرات، وسّع المهدي عمرانها، وجعل حولها خندقا، وبنى فيها مسجدا جامعا، ياقوت الحموي، المصدر السابق، ج3، ص ص 116-118.
[9]- الذهبي، المصدر السابق، ج7، ص 443.
[10]- الذهبي، نفسه، ص 442.
[11]- نفسه، ج7، ص ص286-287.
[12]- ينظر عن تفاصيل حياته ونشأته: شوقي أبو خليل، هارون الرشيد أمير الخلفاء، دار الفكر، دمشق، ط1، 1996م، ص 52، وأحمد أمين، هارون الرشيد، مؤسسة هنداوي، القاهرة، ط1، 1951م، ص ص 14-24، ومنصور عبد الحكيم، هارون الرشيد الخليفة المفترى عليه، دار الكتاب العربي، القاهرة، (دط)، 2011م، ص 48.
[13]- ابن برمك الوزير الكبير، أبو علي الفارسي، ضمه المهدي إلى ابنه الرشيد ليربيه ويثقفه، وكان كبير وزراء الرشيد وإليه الأمر من بعده إلى أن نكبه في الحادثة المشهورة، ومات في سجن الرقة سنة 190هـ. الذهبي، المصدر السابق، ج 9، ص ص 89-90.
[14]- ابن الأثير، المصدر السابق، ج5، ص ص 265-267.
[15]- أحمد علي صكر ومحمد كريم الجميلي، العصر العباسي الأول، قوة دولة وازدهار حضارة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2017م، ص ص 205-241.
[16]- المرجع نفسه، ص 233.
[17]- يقال لها أيضا قسطنطينة، كانت دار ملك الروم، وبينها وبين بلاد المسلمين البحر المالح، وقد سميت باسم أحد ملوكها؛ وهو قسطنطين، وذكر أن لها أبواب كثيرة. ياقوت الحموي، المصدر السايق، ج4، ص 347.
[18]- Wendy Davies and Paul Fouracre, The Languages of Gift in the Early Middle Ages, printed Cambridge University press, 2010, p 133.
[19]- محمد سهيل طقوش، المرجع السابق، ص 92.
[20]- الطبري، المصدر السابق، ج8، ص ص 242-245، وابن الأثير، ج4، ص 291، و عبد العزيز الدوري، المرجع السابق، ص ص 107-111.
[21]- التميمي، أمير المغرب دخل القيروان فبايعوه، وانضم إليه خلق، استعمله الرشيد على المغرب، وكان فصيحا خطيبا وشاعرا مجيدا، وكانت وفاته سنة 196هـ. الذهبي، المصدر السابق، ج9، ص ص 128-129.
[22]- ابن الأثير، ج5، ص 318.
[23]- نفسه، ص ص 354-366.
[24]- محمد سهيل طقوش، ص ص 97-98.
[25]- ابن كثير، المصدر السابق، ج10، ص ص 281 -302.
[26]-. الذهبي، المصدر السابق، ج 9، ص ص 89-92.
[27]- محمد دياب الأتليدي، إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس، ت محمد أحمد عبد العزيز سالم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2004م، ص ص 254-287.
[28]- محمد سهيل طقوش، المرجع السابق، ص 99.
[29]-السيوطي، المرجع السابق، ص ص 485-52، والذهبي، المصدر نفسه، ج7، ص 295.
[30]- المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين، مروج الذهب ومعادن الجوهر، اعتنى به كمال حسن مرعي، المكتبة العصرية بيروت، ط1، 2005م، ج3، ص ص 291-293.
[31]- محمد سهيل طقوش، المرجع السابق، ص ص 111-112.
[32]- المسعودي، المصدر السابق، ج3، ص ص 321-341، وابن الاثير، المصدر السابق، ج5، ص ص 444-451.
المحاضرة الثالثة:خلافة المهدي بالله: (158هـ-169هـ/636م-647م)
يكنى أبا عبد الله، واسمه محمد بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي الملقب بالمهدي بالله؛ وهو ثالث خلفاء الدولة العباسية، ولد بإيذج[1](بإيران حاليا) من مدن الأهواز، وقيل بالحميمة عام 127هـ/744م ، وأمه أم موسى الحميرية، تولى الخلافة بعد وفاة والده سنة158هـ/636م، وكان حينها واليا على طبرستان[2] (شمال إيران حاليا)، ومن صفاته أنه كان محمودا محببا إلى الرعية، جوادا، وفي عهده فتحت إربد في الهند[3].
حكم المهدي لمدة عشر (10) سنوات، وقد ازدهرت في عهده مدينة بغداد، وازداد نفوذ البرامكة ( أسرة من أصول فارسية).
أهم أعمال وإنجازات المهدي:
أشهر الأعمال السياسية والحضارية التي عرفتها منطقة المشرق الإسلامي في عهد المهدي كانت بدايتها في عصر والده المنصور؛ ومنها: خروجه لتأديب عبد الجبار الخارجي الذي ثار في خرسان سنة 141هـ/758م، وتمكنه منه، وعندما بلغه وفاة أبيه خطب في الناس بجامع بغداد: " ّإن أمير المؤمنين عبد دعا فأجاب، وأمر فأطاع، - وغرورقت عيناه- فقال : قد بكى رسول الله عند فراق الأحبة، ولقد فارقت عظيما، وقلدت جسيما، فعند الله أحتسب أمير المزمنين، وبه أستعين على خلافة المسلمين"[4]، وواجه في بداية عهده ثورة الخارجين على طاعته في خرسان وغيرها، كما حارب الروم وردهم عن ثغور المسلمين..
ثورة المقنع في خرسان:
في سنة 159هـ/775م خرج المقنع بخرسان، وكان رجلا أعور قصير قد وضع قناعا من الذهب على وجهه حتى لا يرى وجهه، ادعى الألوهية والضلال،وقد تمكن المهدي منه، كما قمع ثورة يوسف البرم في خرسان سنة160هـ/776م[5]، وفي سنة 163هـ/779م خرج لمحاربة الروم مع ابنه هارون الرشيد، واستطاع أن يعقد معهم معاهدة على أن يقدموا الفدية ألف دينار كل سنة[6]، وقد عقد البيعة لابنيه موسى الهادي، ثم هارون الرشيد من بعده، وتوفي المهدي سنة 169هـ/785م، وهو ابن 43 سنة، واختلف المؤرخون في سبب وفاته، فهناك من ذكر أنه سقط من فرسه، وهناك من قال أنه مات مسموما، وصلى عليه ابنه الرشيد[7].
خلافة موسى الهادي:
هو أبو محمد موسى بن محمد بن عبد الله بن محمد الملقب بالهادي رابع خلفاء بني العباس، ولد بالري[8](جنوب طهران حاليا) سنة144هـ/761م، وولي بالخلافة بعد وفاة أبيه المهدي سنة169هـ/785م، كان الهادي أديبا فصيحا، في عهده ثار الحسين بن علي بن الحسن حفيد العلويين في المدينة، وتمكن من قتله والقضاء على ثورته، غير أن ابن عمه إدريس هرب إلى المغرب[9].
اختلف في سبب وفاته فقيل أنها كانت طبيعية، وقيل أنه عزم على خلع أخيه هارون الرشيد على أن يعقد البيعة لابنه جعفر فقامت أم الرشيد الخيزران مع جواريها بقتله[10]، وكانت وفاته سنة170هـ/786م.
*الخلافة العباسية في عهد هارون الرشيد: (170-193هـ/786-809م).
هو خامس خلفاء الدولة العباسية،واسمه هارون الرشيد بن محمد المهدي، وكنيته أبو جعفر، ولد سنة147هـ/763م بمدينة الري (إيران)، وأمه أم ولد اسمها الخيزران[11]، وقد تلقى الرشيد تربية صارمة في صغره، واختار له والده اشهر المؤدبين فتثقف ثقافة عربية وإسلامية واسعة، وجمع إلى عقله الراجح أدبا رفيعا، بالإضافة إلى الفروسية وقيادة الجيوش، وقد اكتسب شجاعة المحارب وهو فتى صغير؛ حيث جعله والده المهدي بالله أميرا على إحدى حملات الصائفة على البيزنطيين فأظهر كفاءة القائد المحنك، كما عينه واليا على المنطقة الغربية للدولة العباسية والتي كانت تعرف بالمغرب من الأنبار إلى إفريقية[12].
ولايته للعهد:
لقد شاب قضية ولاية العهد في خلافة المهدي الكثير من التعقيدات، وأتى المؤرخ ابن الأثير على مختلف رواياتها، إذ بالرغم من أنها عقدت لأخيه الأكبر منه سنا وهو الهادي، وأن يتولى الرشيد بعده إلا أن والده كان يميل إليه ويقدمه عليه لما ظهر من شجاعته وحنكته، وبعد وفاة والده تولى الهادي خلافة الدولة، غير أنه لم يحكم طويلا حيث كانت وفاته سنة170هـ/786م، وفي وفاته اختلاف بين المؤرخين ومعظم الروايات تدور حول محاولة الهادي تغير نص البيعة بتعين ولده مكان الرشيد، ولولا مساعدة وزيره يحي بن خالد البرمكي[13] لما تمكن منها، وفي رواية أنّ والدته الخيزران وضعت له السم بمعاونة جواريها في قصره[14] .
تولى الرشيد خلافة الدولة العباسية سنة 147هـ/663م، واستمر حكمه لأزيد من 23 سنة إلى غاية سنة193هـ/809م.
العلوم والفنون في المشرق الإسلامي على عهد هارون الرشيد:
عرفت الدولة العباسية في عهد الرشيد أوج تطورها الاقتصادي وازدهارها الفكري والعمراني، وغدت عاصمته بغداد حاضرة الدنيا ومحج العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء، وكل طالب علم ومعرفة، وفي جانب الحياة العلمية عمرت مساجد بغداد وجميع حواضر المشرق كالبصرة والكوفة ومصر ومكة وخرسان وغيرها بحلقات العلم[15]؛ فكان الطلبة يرحلون في طلبه بأعداد كبيرة في مختلف مناطق الدولة شرقا وغربا[16]، ومن أشهر هؤلاء الكسائي والأصمعي والإمام مالك والشافعي وغيرهم، وذاع صيت بيت الحكمة، و نسخت الكتب وانتشرت الترجمة، وتنافس العلماء في مختلف العلوم (كالهندسة والرياضيات والفلك والطب والكيمياء، وغيرها من العلوم العقلية والنقلية)، وتطورت الصناعة وكثر اهتمام الناس بالابتكارات( صناعة النسيج وخرز الحرير، وصناعة الأواني والحلي والأسلحة، وراجت صناعة الورق الذي كان يحمل إلى القسطنطينية[17] (اسطنبول حاليا)، وبلاد المغرب والأندلس، ومن أشهر هذه الاختراعات: الساعة المائية (Water clock) التي ذكرتها بعض المصادر الأجنبية، وذكرت أن هارون الرشيد أهدى واحدة منها إلى شارلمان (Charlemagne)[18].
اهتم الرشيد بالعمارة الإسلامية على اختلاف أنواعها؛ فبنى القصور والحصون والمساجد والجسور والقناطر، وشحن الثغور وعبد الطرقات والمسالك، ومد قنوات السقي وشبكات الري فشجع المزارعين على خدمة أراضيهم وتنويع محاصيلهم، وارتقى أهل الصنائع بحرفهم؛ وهو ما أسهم في رواج التجارة البرية والبحرية، وتنظيم الإتاوات والضرائب على التجار مقابل تأمين سلامتهم وسلامة تجارتهم، و راجت عبارة "عصر الرشيد" بين التجار والعامة من الناس فقد كانت شخصيته تمثل تاريخ عصر أكثر مما تمثل تاريخ إنسان[19].
الأوضاع الداخلية للدولة العباسية في عهد الرشيد:
استهل الرشيد خلافته بالعفو عن المغضوب عليهم زمن خلافة اخيه الهادي، غير أنه اصطدم بجملة من الاضطرابات الداخلية والتي استمرت منذ الدولة الأموية ولم تنقطع جذوتها تاريخيا، متمثلة في الصراع مع العلويين أبناء الإمام علي بن أبي طالب والخوارج، وما كان منه إلا أن ضيق الخناق على العلويين وشتت شملهم؛ وأسس ادريس بن عبد الله بن الحسن إمارة في بلاد المغرب التي كان قد فرّ إليها في عهد الهادي، وآثر الاستقرار بالمغرب الأقصى، بينما اتجه أخوه يحي إلى بلاد الديلم بعيدا عن ركز الخلافة[20]، وعلى الرغم من محاولات الرشيد في القضاء على دولة الأدارسة إلا أن الظروف حالت دون تمكنه منها، إضافة إلى تعدد الدول المستقلة في المغرب (تيهرت، وسجلماسة).
*مواجهة الرشيد للخوارج:
تصدى هارون الرشيد لثورات الخارجين على سلطانه في بلاد المشرق والمغرب، غير أن شوكتهم اشتدت أكثر في بلاد المغرب، وتمكنوا من تأسيس دول مستقلة عن الخلافة العباسية، وهو ما جعله يعين إبراهيم بن الأغلب[21] واليا على إفريقية وما جاورها سنة 184هـ/800م، من أجل السيطرة عليها وإبقاء ولائها للعباسيين[22].
وأما في بلاد المشرق، وبحكم قرب عاصمة الرشيد من المناطق التي ثار فيها الخوارج (المدينة وأرمينية وأذربيجان وخرسان)، إلا أنها لم تشكل خطرا كبيرا على أمن الخلافة؛ بحيث تمكن الرشيد من إخمادها جميعا بحكم إصراره على مواجهتم بحزم وقوة[23].
*نكبة البرامكة:
يعود سبب تسميتهم بالبرامكة إلى الجد الأعلى لهذه الأسرة ذات الأصول الفارسية وهو برمك، وقد اختلف في تفسير معناه بالفارسية إلا أن الراجح من أقوال المؤرخين أن هذا اللقب كان يطلق قديما على خادم المعابد المجوسية في مدينة بلخ (سادن المعبد)[24]، ولأن الدعوة العباسية اعتمدت بشكل ملفت على العناصر الأساسية الفارسية في بداية أمرها كأبي مسلم الخرساني وغيره، فكان لابد أن تظهر شخصيات فارسية أخرى عرفت بولائها للعباسيين وتفانيها في خدمتهم، ومن هؤلاء خالد بن برمك الذي قلده أبو العباس السفاح ديوان الخراج والجند كما عمل في خدمة المنصور[25].
أنجب خالد ابنا نشأ في القصور و تربى تربية الأمراء والملوك، وهو يحي الذي تمكن من بلوغ مراتب عليا في الدولة، وقد وقف إلى جانب الرشيد في مراحل خلافته، وبخاصة في مواجهة الهادي، وقد حفظ الرشيد هذه المواقف والخدمات ليحي ومكنه هو وأولاده الفضل وجعفر من الوزارة والنيابة عنه[26](وزارة تفويض)،وقد تمكن يحي من إدارة الدولة والتحكم في مقاليدها بالاستعانة بولديه الفضل وجعفر، واهتم البرامكة بالمناطق الشرقية (خرسان وطبرستان وأرمينية وبلاد ما وراء النهر(، وتمكنوا من بناء القصور والمساجد و المدارس،وإغداء العطاء للعمال وموظفي الدولة حتى غدت منطقة خرسان وما والاها بيدهم، و تمكن جعفر من إدارة الجزيرة والشام ومصر وإفريقية، وذاع صيت البرامكة بين الرعية، وآل إليهم الأمر دون الرشيد في جميع أصقاع الخلافة، إلا أن الرشيد نكبهم وأطاح بهم جميعا في ليلة واحدة، وتمكن من سجنهم،وقتل أعوانهم (فمات يحي والفضل بالسجن)، وأنهى بذلك سطوتهم[27]، وقد اختلف المؤرخون في تحديد السبب المباشر لهذه النكبة حيث إن الرشيد أحاطها بالسرية التامة، وعند وفاة الرشيد هم المأمون بالعفو عمن بقي منهم[28].
المحاضرة الرابعة: ولاية العهد بعد الرشيد والصراع بين الأمين والمامون:
خلّف الرشيد من الأولاد الذكور– الذين آلت إليهم الخلافة من بعده-عبد الله المأمون وهو الأكبر سنا من زوجته مراجل وهي أم ولد من أصول فارسية، ومحمد الأمين وأمه زبيدة بنت جعفر بن المنصور، والمعتصم أمه أيضا أم ولد اسمها ماردة من أصول تركية[29].
ولأن الرشيد عقد البيعة لابنه الأصغر سنا محمد الأمين إلا أن البرامكة كانوا يسعون لتقديم المأمون حتى تمكنوا من ذلك؛ فعهد الرشيد بالخلافة للمأمون بعد أخيه الأمين[30].
* الصراع بين الأمين والمأمون:
أقر هارون الرشيد بعهد الخلافة لابنه الأمين، على أن يتولى المأمون بعده ثم المعتصم، وقد نصّت البيعة على أن يقر كل طرف على ما في يده من مناطق؛ حيث يتولى الأمين العراق ومصر والحجاز وما جاورها، وأن تكون مدينة بغداد قاعدة ملكه، ويتولى المأمون المنطقة الشرقية وقاعدتها خرسان وهمذان وما والاهما، ومن بعده تكون الولاية لابنه القاسم المؤتمن الذي قطع له الجزيرة وما والاها[31].
خلف محمد الأمين والده بعد وفاته سنة193هـ/809م إلى غاية سنة 198هـ/814م، ودامت فترة حكمه خمس سنوات تقريبا، وأهم ما ميز عهده هو النزاع الذي قام بينه وبين أخيه المأمون،وسببه أن الأمين أقدم على خلع أخيه من ولاية العهد وعين ابنه موسى الملقب "الناطق بالحق"وليا للعهد، وقد كان هذا النزاع استمرارا للصراع القائم بين العرب والفرس في تاريخ الدولة العباسية، وكان يمثل الحزب العربي الأمين ووزيره الفضل بن الربيع، أما الحزب الفارسي فكان يمثله المأمون ووزيره الفضل بن سهل، وقد فصّل المسعودي وابن الأثير في أخبار هذه الفتنة بين الأخوين، وخلاصتها أنّ النزاع بين الأمين والمأمون مرعلى مرحلتين، المرحلة الأولى كانت دبلوماسية سلمية انتهت سنة 195هـ/811م، والمرحلة الثانية كانت مرحلة حرب انتهت بحصار المأمون لمدينة بغداد بقيادة طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين وانتهت بمقتل الأمين سنة198هـ/814م[32].
[1]- بلدة بين خوزستان وأصبهان؛ وهي بين سلسلة من الجبال يقع بها ثلج كثير، وهي كثيرة الزلازل وبها معادن كثيرة، ياقوت الحموي، المصدر السابق، ج1، ص 288.
[2]- إقليم واسع، وهي بلدان كثيرة يشملها هذا الاسم، والغالب على هذه النواحي الجبال، وهي كثيرة المياه والاشجار، نفسه،ج4، ص 13.
[3]- الذهبي، المصدر السابق، ج7، ص ص 400-401.
[4]- ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ت محمد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط3، 2011م، ج8، ص ص 208-209.
[5]- ابن الأثير، المصدر السابق، ج5، ص 211.
[6]- نفسه، ص 232.
[7]- نفسه، ص ص 241-254.
[8]- مدينة مشهورة من أنهات البلاد وأعلام المدن، كثيرة الفواكه والخيرات، وسّع المهدي عمرانها، وجعل حولها خندقا، وبنى فيها مسجدا جامعا، ياقوت الحموي، المصدر السابق، ج3، ص ص 116-118.
[9]- الذهبي، المصدر السابق، ج7، ص 443.
[10]- الذهبي، نفسه، ص 442.
[11]- نفسه، ج7، ص ص286-287.
[12]- ينظر عن تفاصيل حياته ونشأته: شوقي أبو خليل، هارون الرشيد أمير الخلفاء، دار الفكر، دمشق، ط1، 1996م، ص 52، وأحمد أمين، هارون الرشيد، مؤسسة هنداوي، القاهرة، ط1، 1951م، ص ص 14-24، ومنصور عبد الحكيم، هارون الرشيد الخليفة المفترى عليه، دار الكتاب العربي، القاهرة، (دط)، 2011م، ص 48.
[13]- ابن برمك الوزير الكبير، أبو علي الفارسي، ضمه المهدي إلى ابنه الرشيد ليربيه ويثقفه، وكان كبير وزراء الرشيد وإليه الأمر من بعده إلى أن نكبه في الحادثة المشهورة، ومات في سجن الرقة سنة 190هـ. الذهبي، المصدر السابق، ج 9، ص ص 89-90.
[14]- ابن الأثير، المصدر السابق، ج5، ص ص 265-267.
[15]- أحمد علي صكر ومحمد كريم الجميلي، العصر العباسي الأول، قوة دولة وازدهار حضارة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2017م، ص ص 205-241.
[16]- المرجع نفسه، ص 233.
[17]- يقال لها أيضا قسطنطينة، كانت دار ملك الروم، وبينها وبين بلاد المسلمين البحر المالح، وقد سميت باسم أحد ملوكها؛ وهو قسطنطين، وذكر أن لها أبواب كثيرة. ياقوت الحموي، المصدر السايق، ج4، ص 347.
[18]- Wendy Davies and Paul Fouracre, The Languages of Gift in the Early Middle Ages, printed Cambridge University press, 2010, p 133.
[19]- محمد سهيل طقوش، المرجع السابق، ص 92.
[20]- الطبري، المصدر السابق، ج8، ص ص 242-245، وابن الأثير، ج4، ص 291، و عبد العزيز الدوري، المرجع السابق، ص ص 107-111.
[21]- التميمي، أمير المغرب دخل القيروان فبايعوه، وانضم إليه خلق، استعمله الرشيد على المغرب، وكان فصيحا خطيبا وشاعرا مجيدا، وكانت وفاته سنة 196هـ. الذهبي، المصدر السابق، ج9، ص ص 128-129.
[22]- ابن الأثير، ج5، ص 318.
[23]- نفسه، ص ص 354-366.
[24]- محمد سهيل طقوش، ص ص 97-98.
[25]- ابن كثير، المصدر السابق، ج10، ص ص 281 -302.
[26]-. الذهبي، المصدر السابق، ج 9، ص ص 89-92.
[27]- محمد دياب الأتليدي، إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس، ت محمد أحمد عبد العزيز سالم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2004م، ص ص 254-287.
[28]- محمد سهيل طقوش، المرجع السابق، ص 99.
[29]-السيوطي، المرجع السابق، ص ص 485-52، والذهبي، المصدر نفسه، ج7، ص 295.
[30]- المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين، مروج الذهب ومعادن الجوهر، اعتنى به كمال حسن مرعي، المكتبة العصرية بيروت، ط1، 2005م، ج3، ص ص 291-293.
[31]- محمد سهيل طقوش، المرجع السابق، ص ص 111-112.
[32]- المسعودي، المصدر السابق، ج3، ص ص 321-341، وابن الاثير، المصدر السابق، ج5، ص ص 444-451.
* أوضاع الدولة العباسية في عهد المأمون: (198-218هـ/814-834م)
اسمه عبد الله المأمون سابع خلفاء بني العباس، ولد عام 170هـ/786م وتوفي غازيا في218هـ/834م، وصفه المؤرخون بالدهاء والفطنة، ومعرفة الرجال وحب المعرفة والنبوغ فيها[1]، جمع المأمون في سياسته للدولة بين المواقف المختلفة والمتناقضة، فكان يحاول التوفيق بين ميله إلى الفرس تارة ثم إلى العلويين تارة أخرى،واستطاع بتلك السياسة المرنة أن جميع الأحزاب ويتغلب على معظم الصعاب[2]، بويع له بالخلافة أثناء وجوده في خراسان ولهذا لم ينتقل إلى بغداد مقر الخلافة العباسية، بل ظل مقيما في مدينة "مرو"[3]بخراسان مدة ست سنوات تقريبا، انتقل بعدها إلى بغداد سنة 204هـ/820م، ويقال إن سبب ذلك هو أن المأمون كان يخشى أهل بغداد أنصار أخيه وقيل كذلك أن وزيره الفضل بن سهل هو الذي أقنعه بذلك لمكانة بغداد في نفوس الناس مشرقا ومغربا، وقرر المأمون بعد ذلك العودة إلى بغداد بعد أن زالت الأسباب التي دعت إلى غضب أهلها؛ فوصلها سنة 204هـ/820م حيث أقبل الناس على مبايعته والترحيب به[4].
* الاضطرابات الداخلية في عهد المأمون:
ذكر الطبري وغيره أنّ أولى الثورات التي ظهرت في عهد المأمون كانت ببغداد أثناء إقامته في "مرو" بخراسان؛ بسبب تحيزه للعناصر الفارسية؛ وهو أثار غضب أهل العراق من بني هاشم ووجوه العرب فأشاعوا بأن الفرس حجبوا الخليفة واستبدوا بالرأي دونه[5]، لهذا كانت أول ثورة قامت ضد المأمون كانت ثورة عربية تزعمها قائد عربي اسمه أبو السرايا السري بن منصور الشيباني، وكان مركزها مدينة الكوفة بالعراق، وقد انضم إليها عدد كبير من العلويين الناقمين على بني العباس، ونجح أبو السرايا في بداية الأمر حيث انتصر على الجيوش التي أرسلها إليه والي العراق واستولى على البصرة والقادسية وضرب نقودا باسمه، فسار إليه القائد هرثمة بن أعين بطلب من الوالي واستطاع أن يقضي على الثورة وأتباعها، وقتل قائدها وشرد أتباعها سنة 201 هـ/817م[6].
ظهرت ثورات أخرى في أنحاء مختلفة من أقاليم الخلافة بحيث ثار الأقباط في مصر، وثارت القبائل والعشائر العربية في الشام والجزيرة بقيادة زعيم عربي اسمه نصر بن شبث، وكانت هذه الثورات موجهة ضد النفوذ الفارسي لميل المأمون إلى جانب الخراسانيين، وقد استطاع القائد عبد الله بن طاهر بن الحسين تهدئة القبائل الثائرة بالحزم والشدة تارة، وبالمهادنة تارة أخرى برفع الضرائب عنهم والتوسعة عليهم[7].
* الحياة العلمية والفكرية في عهد المأمون:
اهتم المأمون بالعلوم والمعرفة؛ وذلك بجمع تراث الحضارات القديمة وبخاصة الحضارة اليونانية، وأرسل بعثات من العلماء إلى القسطنطينية وقبرص للبحث عن نفائس الكتب بمختلف اللغات ونقلها إلى بيت الحكمة في بغداد[8].
وصف المؤرخون"بيت الحكمة" وما حواه من نفائس الكتب فقد كان يضم مكتبة لنسخ الكتب ودارا لترجمتها للعربية، وكان له مشرف ومساعدون ومترجمون ومجلدون للكتب[9]، وبحسب ما ذكره النديم في كتاب الفهرست؛ فقد بلغ من شغف المأمون بالثقافة الإغريقية أن أرسطو ظهر له في المنام مؤكدا له أنه لا يوجد تعارض بين العقل والدين[10].
شجع المأمون المناظرات الكلامية والبحث العقلي في المسائل الدينية كوسيلة لنشر العلم وإزالة الخلاف بين العلماء، مما أدى إلى قوة نفوذ العلماء في الدولة وكان من أشهرهم أبو عثمان الجاحظ صاحب كتاب "البيان والتبيين".
راجت في عهد المأمون مختلف العلوم والآداب والفنون؛ كالرياضيات والهندسة وعلم الفلك والطب و الجغرافيا والفلسفة والمنطق، وعلوم الأوائل (العلوم القديمة)، وتعددت المذاهب الفقهية والعقدية وانتشرت العلوم الشرعية والآداب والشعر، واتسم عصره بالحرية
في التفكير وتمجيد العقل، وانتشر فكر المعتزلة[11] بشكل كبير؛ وذلك لأن المأمون اعتنق أفكار المعتزلة وقرب منه روادها كالجاحظ؛ بل وحمل الناس في الأصقاع على تبني مذهب المعتزلة والقول بخلق القرآن[12]؛ وهو الأمر الذي امتحن لأجله الكثير من الفقهاء الرافضين لهذه المعتقدات ومن أشهرهم الإمام أحمد بن حنبل الذي تعرض للتعذيب والسجن، ولم يرجع عن قوله بأن القرآن كلام الله غير مخلوق[13].
استمر المأمون في خلافة الدولة العباسية لما يزيد عن 20 سنة، وقد شهدت الدولة في عهده ازدهارا اقتصاديا وعمرانيا وعلميا بلغت الإشادة به عند مؤرخي عصره على اختلاف مشاربهم ومناهجهم[14].
* خلافة المعتصم بالله: (218-227هـ/834م-842م).
هو أبو إسحاق محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد ثامن الخلفاء العباسيين،ولد سنة 179هـ/786م، وتوفي بمدينة سامراء في سنة 227هـ/842م، وكان في عهد أخيه المأمون واليا على الشام ومصر، وكان المأمون يميل إليه لشجاعته فولاه عهده، وفي اليوم الذي توفي فيه المأمون بطرسوس بويع أبو إسحاق محمد بالخلافة ولقب بالمعتصم بالله في 19 من رجب سنة 218هـ/834م[15]، وبحسب بعض المؤرخين فقد كان يملك قوة بدنية وشجاعة مميزة، غير أنه كان محدود الثقافة وضعيف الكتابة، وما ميز عهد المعتصم هو استعانته بالجنود الأتراك وذلك للحد من المنافسة الشديدة بين العرب والفرس[16].
* دور المعتصم في إخماد الثورات الداخلية:
اتبـع المعتصم بالله سياسة أخيه المأمـون في إخماد الثـورات، ومحاربة المنتزين فـي جميع الأراضي والأقاليم الخاضعة للخلافة العباسية، فتمكن من القضاء على ثورة القبائل الجنوبية
المعروفة بالهنود الزط[17] في جنوب العراق سنة 220هـ/836م، وأجلاهم إلى الأناضول، كما قضى على الحركة الخرمية؛ (وهي التي ظهرت في زمن المأمون،ونسب إليها المؤرخون أقوالا وأفعالا بعيدة عن الإسلام) وقتل زعيمها بابك الخرمي سنة223هـ/839م، ثم قامت ثورة أخرى في خرسان بقيادة محمد بن القاسم؛ وهو شيعي على المذهب الزيدي غير أن واليها أمسك به وبعثه إلى المعتصم فقام الخليفة بحبسه[18].
فتح عمورية:
تمكن ملك الروم "توفيل ميخائيل"[19]من تجهيز جيش يزيد قُوامه على مائة ألف جندي، وسار به إلى بلاد الإسلام، فهاجم المدن والقرى وقتل وأسر الكثير من المسلمين ، وكانت
مدينة ملطيَّة[20]من المدن التي خرَّبها الملك توفيل.
وكان من بين الأسيرات امرأة هاشمية تُدعى "شراة العلوية"، استغاثت بالخليفة المعتصم في أسرها،وقد ذكر ابن الأثير أنها صاحت وهي أسيرة في أيدي الروم: "وامعتصماه"، وبين المؤرخين اختلاف في روايتها.
اتجه المعتصم إلى عمُّوريَّة في (جمادى الأولى 223هـ/ أفريل 838م)، وليس من العادة أن تسير الفتوحات في هذه الأوقات من السنة؛ غير أنّ المعتصم أصرّ على الخروج إليها ومواجهة البيزنطيين، ورفض قبول توقيت المنجِّمين الذين تنبَّئوا بفشل الحملة إذا خرجت في هذا التوقيت[21].
خرج المعتصم في جيوش كبيرة، وبعث بالأمراء إلى مناطق الثغور، ووصل إلى قُرب طرطوس[22]، و قَسَّمَ جيشه الجرَّار إلى فرقتين؛ الأولى بقيادة "الأفشين"[23]، ووجهتها مدينة أنقرة، وسار هو بالفرقة الثانية، وبعث "أشناس"[24] بقسم منها إلى أنقرة، ولكن من طريقٍ آخر، وسار هو في إثره، على أن يلتقي الجميع عند أنقرة التي دخلتها جيوش المعتصم بعد هزيمة الإمبراطور، وتوجَّهت إلى عمورية فوافتها بعد عشرة أيام، وضربت عليها حصارًا شديدًا.
بدأ الحصار في (6رمضان 223هـ/1أوت838م)، وكانت عمورية مدينة عظيمة جدًّا، ذات سور منيع وأبراج عالية كبار كثيرة، وقد تحصَّن أهلها تحصُّنًا شديدًا، وملئوا أبراجها بالرجال والسلاح، ولكنَّ ذلك لم يمنع المسلمين من إحكام القبضة عليها، ودخل المعتصم وجنده مدينة عمورية في (17 رمضان 223هـ/12أوت838م)، وتكاثر المسلمون في المدينة وهم يكبرون ويهلِّلون، وتفرَّقت الروم عن أماكنها، فجعل المسلمون يقتلونهم في كل مكان[25].
يرجح الكثير من الباحثين أن بداية عوامل ضعف الدولة العباسية بدأت مع المعتصم بالله الذي رسخ العنصرية في الجيوش باعتماده على العنصر التركي في مواجهة العرب والفرس، ومنذ ذلك التاريخ ظهر نزاع العصبية لعنصر قوي جديد، فقد كان النزاع من قبل بين الفرس و العرب، فأصبح بين العرب و الفرس و الأتراك،حتى إنه بنى مدينة خاصة بهم سميت "سر من رأى" سنة (221هـ \ 835م)على ضفاف نهر دجلة، والتي عرفت فيما بعد بسامراء في العراق، وسكنها مع العسكر واتخذها عاصمة له[26].
[1]- الذهبي، المصدر السابق، ج10، ص 273، و السيوطي، المصدر السابق، ص ص 496-518.
[2]- ابن الأثير، المصدر نفسه، ص ص 561-572.
[3]- اشهر مدن إقليم خرسان، تسميتها فارسية ومعناها بالعربية الحجارة البيض، يمر عبرها نهران كبيران يخترقان شوارعها، ومنهما سقي أكثر ضياعها، وعلها سور عظيم. ياقوت الحموي، المصدر السابق، ج5، ص ص 112-115.
[4]- ابن الأثير، نفسه، ص ص 510-511.
[5]- الطبري، المصدر السابق، ج8، ص ص 558-564.
[6]- ابن الأثير، المصدر السابق، ص ص 499-511، ومحمد سهيل طقوش، المرجع السابق، ص ص 128-129.
[7]- ابن الأثير، نفسه، ص 561.
[8]- حيدر قاسم التميمي، بيت الحكمة العباسي ودوره في ظهور مراكز الحكمة في العالم الإسلامي، زهران للطباعة والنشر، عمان، ط1، 2011م، ص 41.
[9]- المرجع نفسه، ص ص 43-58.
[10]- النديم، أبو الفرج محمد بن إسحاق، الفهرست، ت أيمن فؤاد السيد، مؤسسة الفرقان للثراث الإسلامي، لندن، 2009م، ج2، 141-142.
[11]- هي إحدى الفرق الإسلامية، نشأت في عهد الدولة الأموية، ولا يعرف على وجه التحديد تاريخ ظهورها، ويرى جمهور المؤرخين انهم ينتسبون لواصل بن عطاء أحد تلامذة الحسن البصري، وأنه اختلف مع شيخه حول مسألة مرتكب الكبيرة، وكان رأيه عدم الجزم بإيمانه ولا كفره، وأنه في منزلة بين المنزلتين، ثم اتعزل شيخه واتخذ لنفسه مجلسا في المسجد وعرف أتباعه من حينها بالمعتزلة، وبنوا عقيدتهم على خمسة أصول هي: التوحيد والعدل والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ينظر عن تفاصيل تاريخهم ومعتقداتهم محمد أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة والعقائد وتاريخ المذاهب الفقهية، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1996م، ص ص 118-150.
[12]- من بين أشهر المسائل التي اشتهر بها المعتزلة، وقد راجت في عصر المأمون، وصفة الكلام لله تعالى من بين الصفات التي أنكرها المعتزلة عن الذات الإلهية، وأن ذكرها في القرآن بمنعى الخلق أي أن الله خلق الكلام كما يخلق كل شيء، ومنه يكون القرآن مخلوق، وقد تبنى المأمون هذا الرأي وحمل الناس على القول به. المرجع نفسه، ص ص 141- 151.
[13]- نفسه.
[14]- ينظر بحث خالد محمد أحمد بديوي، الحياة السياسية والإدارية والاجتماعية والثقافية في عصر الخليفة المأمون، رسالة ماجستير، جامعة عين شمس، القاهرة، 2001م، ص ص 170-269.
[15]- الذهبي، المصدر السابق، ج10، ص ص 290-300.
[16]- الذهبي، المصدر السابق، ج10، ص ص 290-300..
[17]- اختلف المؤرخون في أصلهم فأرجعهم البعض إلى الهند وأنهم هجروا بشكل جماعي واسقروا جنوب العراق، ولذلك عرفوا بالهنود الزط، وكانوا يستغلون فرص اضطراب الأوضاع في العصر العباسي فيقطعون الطرق ويهددون القوافل التجارية،ابن الأثير، المصدر السابق، ج6، ص 16، ومحمد سهيل طقوش، المرجع السابق، ص 140.
[18]- ابن الأثير، نفسه، ص ص 18-21.
[19]- يعرف في المصادر الأجنبية باسم (Theophilos)، أحد أباطرة الدولة البيزنطية، عاصر المأمون والمعتصم، وحكم لمدة 12 سنة بين سنتي 829-842م. ابن كثير، المصدر السابق، ج10، ص 326.
[20]- بلدة من بلاد الروم، كانت تابعة للمسلمين منذ العصر الاموي، ووسع المنصور العباسي بناءها وأسكنها الناس، وإليها ينسب عدد كبير من العلماء والفقهاء، ياقوت الحموي، المصدر السابق، ج5، ص 192.
[21]- ابن الأثير، المصدر السابق، ج6، ص 40.
[22]- بلد بالشام مشرفة على البحر قرب المرقب وعكا، ينسب إليها عدد من العلماء والفقهاء، ياقوت الحموي، نفسه، ج4، 30.
[23]- واحد من أشهر القادة الأتراك في الجيوش العباسية، ظهرت حنكته وحسن قيادته في عصر المعتصم.
[24]- قائدي تركي، قدمه المعتصم لما رأى فيه من الشجاعة والإقدام وجعله على رأس إحدى فرقه.
[25]- ابن الأثير، المصدر السابق، ص ص 41-45.
[26]- طقوش، المرجع السابق، ص ص 144-145.
* أوضاع بلاد المشرق في عهدي الواثق والمتوكل:
بعد وفاة المعتصم بالله سنة 227هـ/841م خلفه ابنه الواثق بالله واسمه هارون بن محمد المعتصم تاسع خلفاء بني العباس، ولم يدم حكمه طويلا حيث كانت وفاته سنة232هـ/846م[1]، وفي عهده قامت عدة ثورات في الشام وفلسطين بسبب الاحتكاكات بين السكان العرب والجيوش التركية التي شكلها والده المعتصم، غير أنه تمكن من إخمادها، وتبنى النهج الذي كان عليه المأمون بحمل الناس على اتباع مذهب الاعتزال والتضييق على العلماء المخالفين،و توفي الواثق بالله بعد أن اشتد عليه المرض سنة 232هـ/846م، وعقدت البيعة لأخيه جعفر بن محمد المعتصم ولقب بالمتوكل على الله[2]، وهو عاشر خلفاء بني العباس، في عهده ازداد نفوذ الأتراك وأظهر الميل إلى السنة ونصر أهلها، وأنهى فتنة محنة خلق القرآن، وأخرج من الحبس وخلع عليه، واستقدم المحدثين إلى سامراء وأجزل عطاياهم وكان كريما،وقد عرفت بلاد المشرق في حياته عدة أحداث ومنها في سنتي242 و245هـ، كثرت الزلازل، وشملت أماكن عديدة حتى قيل: إنها عمت الدنيا، وكان لابد أن تصاب الحياة بالشلل، ويعم الخراب والدمار والبؤس[3].
قام المتوكل بنفس الخطأ الذي وقع فيه جده هارون الرشيد عندما عقد الولاية لثلاثة من أبنائه،بحيث عقد الولاية لثلاثة من أبنائه؛ وهم: المنتصر ثم المعتز ثم المؤيد، وكان نفوذ الأتراك يزداد يومًا بعد يوم، وقد أحس المتوكل بتوغل الأتراك في الدولة، واستبدادهم بأمور الخلافة وإدارتها وجيشها، فحاول أن يقلل نفوذهم فبدأ بإيتاخ أحد اكبر قادة الجند فدبر له مكيدة حتى قتل[4].
انتقل المتوكل بعاصمة الخلافة من بغداد إلى دمشق -ربما ليستعين بسلطان العرب على الأتراك- ولكنه لم يتحمل البقاء بدمشق فعاد إلى بغداد، وكان قد شاع أنه عزم على الفتك بمن بقي من كبار قادة الأتراك وهما:وصيف وبغا، ولكنه لم يتمكن من ذلك لأنهم سبقوه إلى الغدر بحيث عملوا على استغلال كره المنتصر لأبيه المتوكل بسبب تفضيل المتوكل لولده المعتز على المنتصر بالله، فتحالف المنتصر بالله مع بعض جند الأتراك ودخلوا على المتوكل وهو عليل وقتلوه سنة 247هـ/861م[5]، وكان ذلك بداية لعهد تمكن نفوذ الأتراك، وبداية ظهور الدول المستقلة التي حكمت باسم الخلافة العباسية.
المحاضرة الخامسة:
العصر العباسي الثاني: (عصر النفوذ التركي)
وبداية ظهور الدول المستقلة في المشرق الإسلامي.
* النفوذ التركي في العصر العباسي الثاني: (232-334هـ/847م-946م)
كان المأمون أول من استخدم الأتراك وقرّبهم، ولكنهم كانوا محدودى العدد والنفوذ فى عهده، فلما تولى الخليفة المعتصم الحكم جعلهم عنصرًا أساسيا فى جيشه، وبلغ عددهم بضعة عشر ألفًا، وكانوا تحت سيطرة الخليفة.
بدأ نفوذ الأتراك يتزايد فى عهد الواثق، ثم ازداد حدة واتساعًا فى عهد الخليفة المتوكل، وقد تولى الخلافة فى ذى الحجة سنة 232هـ/846م، وكان عهده بداية حقبة الضعف والتدهور، وتفكك بنيان الخلافة العباسية[6].
على الرغم من أن المتوكل وصف بقوة شخصيته وهيبته إلا أنه لم يستطع أن يضع حدا لاستفحال النفوذ التركى فى عصـره الذى كان له دور فى توليته الخلافة بعد أن كادت البيعة
تتم لمحمد بن الواثق[7].
استطاع المتوكل فى بداية حكمه أن يتخلص من أخطر العناصر التركية فى عهده، وهو "إيتاخ" الذى استفحل خطره حتى إنه همَّ يومًا بقتل الخليفة المتوكل حين تبسَّط معه فى المزاح، لكن الخليفة تمكن من إزاحته و التخلص منه سنة 235هـ/849م، كما عزم على التخلص من قادة الأتراك ووجوههم، مثل "وصيف" و "بُغا"، إلا أنهم استغلوا ما بينه وبين ابنه وولى عهده محمد المنتصر من خلاف وجفوة ودبروا مؤامرة انتهت بقتل المتوكل ووزيره الفتح بن خاقان فى الخامس من شوال سنة 247هـ/861م، وبايعوا ابنه المنتصر بالله خليفة[8].
تعاطف العامة والفقهاء مع المتوكل بسبب جرأته في التغيير، فقد منع النقاش فى القضايا الجدلية التى أثارها المعتزلة، مثل قضية خلق القرآن، كما رد للإمام أحمد بن حنبل اعتباره وجعله من المقربين إليه، بعد أن اضطُهد فى عهد المأمون و المعتصم و الواثق؛ لعدم إقراره القول بخلق القرآن، و أمر الفقهاء والمحدِّثين أن يجلسوا للناس ويحدثوهم بالأحاديث التى فيها رد على المعتزلة فأثنى الناس عليه، حتى قالوا: "الخلفاء ثلاثة: أبو بكر الصديق قاتل أهل الردة حتى استجابوا له،و عمر بن عبد العزيز رد مظالم بنى أمية، و المتوكل محا البدع وأظهر السنة"[9].
اعتلى المنتصر بالله كرسي الخلافة في اليوم الذي قتل فيه أبوه، ورغم محاولاته الوقوف في وجه الأتراك إلا أنها باءت بالفشل وانتهت بمقتله بعد حكم دام 6 أشهر سنة 248هـ/862م،وعقب وفاة المنتصر اجتمع الأتراك بزعامة بُغا الصغير و بُغا الكبير، وقرروا عدم تولية أحد من أولاد المتوكل الخلافة، خوفًا من انتقامه منهم، وبايعوا أحمد بن المعتصم، الملقَّب بالمستعين بالله، ولم يمضِ وقت طويل حتى غضب عليه الأتراك وقرروا خلعه ومبايعة المعتز بالله محمد بن المتوكل؛ فاشتعلت الحرب بين أنصار المستعين وأنصار المعتز، وانتهت بالقبض على المستعين وقتله فى سجنه فى شوال سنة 252هـ/866م، وقد بويع له وعمره تسعة عشر عامًا، غير أنّ الأتراك استضعفوه وطلبوا منه مالاً فاعتذر لهم بفراغ بيت المال، فثاروا عليه وضربوه ومزقوا ملابسه، وأقاموه فى الشمس، فكان يرفع رجلاً ويضع أخرى من شدة الحر، ثم سجنوه وعذبوه حتى مات فى شعبان سنة 255هـ/869م، وكان من أهم الأحداث التى شهدتها خلافة المعتز قيام الدولة الصفَّارية فى فارس[10].
بايع الأتراك المهتدى بالله خليفة للمسلمين فى رجب سنة 255هـ/869م، عقب الإطاحة بالمعتز؛ فحاول المهتدى بالله أن يوقف طغيان الأتراك واستبدادهم فقتل بعضهم، فثاروا عليه وأسروه وعذبوه ليخلع نفسه فرفض، فقاموا بخلعه وسجنه وتعذيبه حتى مات فى رجب سنة 256هـ/870م[11]، وقد كان من أهم الأحداث التى شهدها عصر المهتدى بالله:
ثورة الزَّنج: (255-270هـ/869-883م)
عرفت هذه الثورة بهذا الاسم بسبب أنّ أعدادًا كبيرة من الذين شاركوا فيها كانوا عبيدًا سودًا، واندلعت فى البصرة بزعامة علي بن محمد، الذى قيل إنه ينتسب إلى آل البيت، وحققت مكاسب سياسية ومادية؛ فاستولت فى مدة قصيرة على بعض المدن المهمة فى العراق، مثل: البصرة و واسط و الأهواز، ووصلت إلى البحرين، وارتكبت مذابح بشعة ضد السكان الآمنين، وقد استطاع القائد العباسى الموفق طلحة بن المتوكل القضاء على هذه الثورة - فيما بعد - سنة 270هـ/883م فى خلافة أخيه المعتمد على الله.[12]
تدهورت أوضاع الخلافة العباسية بعد هذه الفترة، ولم يعد للخليفة سلطة بين الرعية، واستطاع الأتراك إحداث تنطيمات جديدة زادت من عزل الخليفة، ومنها: منصب "إمرة الأمراء" في سنة 324هـ/935م، وانتهى هذا العصر بخلافة المستكفي بالله الذي بويع سنة 333هـ/944م، وتدهورت الأحوال الداخلية فى عهد المستكفى بشكل غير مسبوق؛ مما أدى إلى تطلع البويهيين - أصحاب النفوذ فى بلاد فارس - منذ سنة321هـ/932م إلى بسط سلطانهم على العراق، وقد نجحوا فى ذلك سنة 334هـ/945م لتبدأ مرحلة جديدة فى تاريخ العصر الثانى للخلافة العباسية، عُرفت فيما بعد باسم عصر نفوذ البويهيين[13].
يمتد عصر نفوذ الأتراك إلى ما يزيد قليلاً على قرن من الزمان، تعاقب خلاله على كرسي الخلافة ثلاثة عشر خليفة هم:
المتوكل على الله جعفر بن المعتصم ......................(232 - 247هـ)
المنتصر بالله «محمد بن المتوكل»....................... (247 - 248هـ)
المستعين بالله «أحمد بن المعتصم» .......................(248 - 252هـ)
المعتز بالله «محمد أبو عبد الله بن المتوكل».............. (252 - 255هـ)
المهتدى بالله «محمد بن الواثق بن المعتصم»............ (255 - 256هـ)
المعتمد على الله «أحمد بن المتوكل بن المعتصم»....... (256 - 279هـ)
المعتضد بالله «أحمد بن الموفق طلحة بن المتوكل»..... (279 - 289هـ)
المكتفى بالله «أبو محمد على بن المعتضد» ...............(289- 295هـ )
المقتدر بالله «أبو الفضل جعفر بن محمد»................ (295 - 320هـ)
القاهر بالله «أبو منصور محمد بن المعتضد»............ (320 - 322هـ)
الراضى بالله «أبو العباس محمد بن المقتدر » ...........(322 - 329هـ )
المتقى لله «أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر» ...............(329 - 333هـ )
المستكفى بالله «أبو القاسم عبد الله بن المكتفى» ...........(333 - 334هـ)
[1]- الذهبي، المصدر السابق، ج10، ص ص 306-308.
[2]- الطبري، المصدر السابق، ج9، ص ص 123-154.
[3]- ابن الأثير، ج6، 94.
[4]- ابن الأثير، نفسه، ص 103.
[5]- الطبري، ج9، ص 222.
[6]- نفسه، ص ص 123-150.
[7]- طقوش، ص 162.
[8]- ابن الأثير، ج6، ص 136.
[9]- الصفدي، صلاح الدين خليل بن أيبك، الوافي بالوفيات، ت أبو عبد الله جلال الأسيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2010م، ج9، ص 78.
[10]- تنظر تفاصيل هذه الأحداث عند ابن الأثير، ج6، ص ص 141-151.
[11]- ابن الأثير، ج6، ص ص 141-151.
[12]- ينظر عن أسباب ونتائج هذه الثورة فيصل السامر، ثورة الزنج، دار المدى للنشر، دمشق، ط2، 2000م، ص ص 91-169.
[13]- ينظر عن هذه الحقبة ما كتبته الباحثة ناريمان صادق عبد القادر الألشي، الخلافة العباسية وعصر إمرة الأمراء، رسالة ماجستير غير مطبوعة، جامعة الملك عبد العزيز، قسم التاريخ، الرياض، 1980م، ص ص 48-316.
ظهور الدول المستقلة في تاريخ الخلافة العباسية: الدولة الطاهرية: (205-259هـ/821-872م): الأصل والنشأة: تنسب الدولة الطاهرية إلى مؤسسها طاهر بن
الحسين بن زريق ماهان الخزاعي، وهوأحد أشهر قواد الخليفة العباسى المأمون، كان يعرف بذى اليمينين[1]،
وقد سيره لمحاربة أخيه الأمين من خراسان لما خلع بيعته فتقدم طاهر إلى بغداد بعد
كسر جيش الخليفة بالري وأخذ ما في طريقه من البلاد وحاصر بغداد وقتل الأمين سنه
198هـ/813م، وحمل رأسه إلى خراسان وعقد للمأمون على الخلافة فكان المأمون يرعاه
لمناصحته وخدمته، وتوليته على خراسان سنه 205هـ/821م[2]،وكانت
هذه الولاية بمثابة حجر الأساس لقيام دولة اشتهرت باسمه في التاريخ، وتوفى فيسنة207هـ/823م.
كان المأمون أكبر سنا من
الأمين ويرى نفسه أجدر بالخلافة من أخيه لذا عمل على ترسيخ أقدامه في خراسان
واستعان على ذلك بشخصيات قوية أمثال الفضل بن سهل، وكان عالماً متبحراً، وكان
عالما متبحرا، وداهية ذا فطنة وفراسة عظيمة فاكتشف مهارة بدأت شهرة طاهر بن الحسين
عندما استطاع بفضل مهارته الحربية أن ينتصر على الجيوش الكبيرة التي أرسلها الأمين
لمحاربة المأمون رغم أن جيش طاهر كان أربعة آلاف فقط في حين أن جيوش الأمين كانت
عشرات الآلاف، وأصر المأمون على مواصلة القتال حتى أخذ الأمين فقتله
وذلك سنة 198هـ/813م، وأخذ طاهر بن الحسين القضيب والبردة وخاتم الخلافة وأرسل بهم
للمأمون[4]. أمر المأمون طاهرا أن يلتقي
معه ببغداد فأكرمه وولاه بلاد الجزيرة والسواد وجانبي بغداد واعترف المأمون بفضل
طاهر وتفانيه في الخدمة؛ ويعتبر الكاتب ابن طيفور الخرساني (280هـ/893م) أقرب
الرواة لعصر المأمون وأخباره، وقد سجل الكثير من الروايات الشفوية عن علاقته بطاهر
بن الحسين في قطعة تاريخية نادرة؛ ومنها أنّ المأمون وصف طاهرا قائلاً:"ما
حابى طاهر في جميع ما كان فيه أحداً ولا مال لأحد ولا داهن ولا وهن ولا وني ولا
قصر في شيء وفعل في جميع ما ركن إليه ووثق به فيه أكثر مما ظن به وأمله، وأنه لا
يعرف أحد من نصحاء الخلفاء وكفأتهم فيمن سلف عصره ومن بقي في أيام دولته على مثل
طريقته ومناصحته وغنائه وإجزائه"[5]. * تعاقب الطاهريين على حكم خرسان: لما استقر الأمر للمأمون
بالخلافة سنة 198هـ/813مأسند إلى طاهر بن الحسين ولاية خراسان وبقية ولايات
المشرق، وولّى ابنه عبد الله على الرقة وعهد إليه بحرب نصر بن شبث الذي خرج على
العباسيين لتقريبهم العجم[6]. ولما توفى طاهر سنة 207هـ/822م
عهد المأمون إلى عبد الله بن طاهر بولاية خراسان خلفًا لأبيه، فاستخلف عبد الله
عليها أخاه طلحة، فاستمر عليها حتى توفي بعد سبع سنين[7]. بعد ذلك اتجه عبد الله بجيشه
إلى مصر التي كانت تموج بالفتن والاضطرابات بعد تمرد ولاتها على سلطان العباسيين،
فزحف إليها بجيشه –سنة 211هـ/826م، وأرسل إلى عهد بن السري –والي مصر- يدعوه إلى
السمع والطاعة للخليفة المأمون، ولكن ابن السري حاول رشوته بهدية كبيرة، أرسلها
إليه خفية، فردها عبد الله، وكتب إليه يقول: "لو قبلت هديتك نهارًا لقبلتها
ليلاً.. بل أنتم بهديتكم تفرحون"، ولم يجد ابن السري بدًا من الاستسلام،
فاستسلم له في 211هـ/826م ودخلها عبد الله واليًا عليها[8]. ظهور حركة بابك الخرمي: (الحركة الخرمية) حركة بابك
الخرمي هي أولى الحركات الخارجة على سلطان الخلافة، والتي كانت واحدة من الفرق
الهدامة التي تدعو إلى إباحة الأموال والنساء، وتستحل القتل والغصب، وأراد بابك أن
يحرك مشاعر الفرس لتأييده، فأشاع أنه من نسل فاطمة بنت أبي مسلم الخراساني، وأنه
جاء لإقامة دولة الفرس، واستفحلت تلك الحركة، واشتد خطرها بعد أن استحل بابك دماء
المسلمين والذميين على حد سواء، وتوفي المأمون دون أن يحسم أمر ثورته؛ فكانت من
وصاياه لأخيه المعتصم بالقضاء عليها[9]. * الجوانب الحضارية للدولة
الطاهرية: اتبع عبد الله بن طاهر طريقة
مثلى في إقامة أركان إمارته الناشئة؛فاهتم بتنظيم النواحي الإدارية فيها، فكان
يشدد الرقابة على عماله، ويحاسبهم على ما يخولهم فيه من سلطات إدارية، وكان حريصًا
على الكتابة إليهم ومتابعتهم؛ فَسَادَ في عهده العدل والإنصاف، وشهدت الدولة
الطاهرية –في عهد عبد الله بن طاهر- ازدهارًا اقتصاديًا ملحوظًا، فقد اهتم
بالزراعة وهو ما أدى إلى تنوع المحاصيل، وشق الترع وقنوات الري، وعندما اشتد
النزاع بين المزارعين حول استخدام تلك القنوات أصدر عددًا من التشريعات والقوانين
التي تنظم العلاقة بين المزارعين في استخدامها[10]. شهدت الحياة الفكرية
والعلمية والثقافية نهضة كبيرة في عهد عبد الله بن طاهر، فكان يشجع العلماء
والأدباء والشعراء، وكان هو ذاته شاعرًا بليغًا يهتم باللغة العربية وفنونها
وآدابها، فالتف حوله عدد من الأدباء والعلماء والفقهاء، منهم أبو عبيد الله القاسم
بن سلام –المتوفى سنة 224هــ/839م، وارتبط به كذلك يوحنا بن ماسويه الطبيب المشهور،
وألف له كتاب: "الصداع وعلله وأوجاعه وجميع أدويته"[11]. *مرحلة الضعف ونهاية الدولة: بعد وفاة عبد الله بن طاهر
ولى الخليفة الواثق أعمال عبد الله كلها ابنه طاهر بن عبد الله 230ـ 248هـ/845-863م،
ثم تعاقب على حكم الدولة أمراء ضعاف، لم يصمدوا في وجه ثورات الخوارج والشيعة، وفي
عهد محمد بن طاهر استفحلت ثورة الخوارج في سجستان، وأخفق واليها من قبل الطاهريين
في إخمادها، فتولى أمر الثورة المتطوعة وعلى رأسهم يعقوب بن الليث الصفار، مؤسس
الدولة الصفارية والذي كانت نهاية الطاهريين على يده سنة 259هـ/874م[12]. المحاضرة السادسة: الدولة الصفارية (254-290هـ/868-902م). الأصل والنشأة:
يرجع ظهور الدولة الصفارية إلى مؤسسها يعقوب بن الليث الصفار[13]،
رجل من عامة الناس، وقد عرف بهذا اللقب نسبة إلى حرفته التي اشتهر بها في بداية
حياته؛ وهي صناعة النحاس الأصفر، وتعرف بصناعة الصفر ويقصد به النحاس، وقد احترفها
مـع أخيه عمرو بن الليث[14]
بأجر شهري قدره 15 درهما في مدينة سجستان[15]،
ويعود أصل هذه الأسرة بحسب عدة روايات تاريخية
إلى أنها تنحدر من جبال الشاش شرق فارس، بينما أهملت روايات أخرى أصلها ونسبها. كانت ولاية سجستان من
الولايات التابعة لحكم الطاهريين، وقد انتشر فيها الخوارج وزادت شوكتهم بعد ضعف
بيت الطاهريين في آخر عهدهم مما صعب عليهم مهمة القضاء عليهم، وقد دفع هذا الأمر
الأهالي من العامة إلى تشكيل فرق من المتطوعة إلى مواجهتم، وكان يعقوب بن الليث
الصفار أحد قادة الفرق المتطوعة،وهذا في خلافة المتوكل على الله[16]. لم يتمكن والي العباسيين
على سجستان من المواجهة فتخلى عن ولايته فخلفه قائد الفرق المتطوعة وهو درهم بن
الحسين مع مساعدة يعقوب بن الليث الصفاري غير أن ضعف شخصيته، وعدم ميل العامة له
عجّل بإزاحته وتعيين يعقوب بن الليث واليا على سجستان، وقد أبدى قوة وشجاعة في
مواجهة الخوارج ونشر الأمن والسلام فأعجب به أتباعه و أطاعوه[17]. بدأ يعقوب بن الليث الصفاري
في توسيع نفوذه في بقية المدن التي كانت خاضعة للطاهريين حتى تمكن من أسر العديد
من ولاتها، ولم يطلق سراحهم حتى تدخل الخليفة المعتز بالله (252-255هـ/866-869م)،
وكان هذا أول اتصال للصفاريين بالخلافة العباسية، وفي سنة 255هـ/869م استطاع يعقوب
بن الليث السيطرة على أجزاء كبيرة من مدن ما وراء النهر (نهرجيحون)، وإقليم خراسان
منها: فارس وشيراز وكرمان وبلخ وكابل[18].
علاقة الصفاريين بالخلافة العباسية: لاحظ العباسيون قوة
الصفاريين وهي تتعاظم على حساب ولاتهم الطاهريين، وبعد دخول يعقوب بن الليث مدينة
نيسابور وإلقاء القبض على آخر ولاة خرسان من الطاهريين وهو الأمير محمد بن طاهر،
وخشية غضب الخليفة العباسي المعتمد على الله (256-279هـ/870-883م) قام بإرسال
رسالة إلى الخليفة العباسي يوضح له فيها أن ما قام به كان بطلب من عامة خرسان بسبب
غضبهم على الطاهريين وظلمهم لهم، وهو يطلب عفو الخلافة وإنصافها له، وقد استجاب
الخليفة لأمره ومنحه في أول الأمر الحكم على ما في يده من أراضي ولكن علاقة الصفار
بالخلافة لم تهدا تماماً بسبب طموحات الصفار في العراق نفسها فأصدر الخليفة منشورا
يعزل فيه الصفار ويلعنه؛ بل وأثار الناس عليه في الحج[19]. تطور الخلاف بين الصفاريين
والخلافة العباسية بحيث زحف يعقوب بن الليث على العراق لمواجهة الجيوش العباسية،
فرحل الخليفة من سامراء إلى بغداد استعدادا منه للتصدي والمواجهة، وقد تمكن
الصفاريون من دخول مدينة واسط، غير أن الجيوش العباسية واجهتهم بقوة وحزم خارجها
وأدت المعركة إلى انهزام جيش الصفاريين في رجب سنة262هـ/876م، وكان من أسباب هزيمة
الصفاريين هو تخاذل جندهم وشعورهم بالمهانة وهم يواجهون الخليفة العباسي لما في
رقابهم من فروض بيعة الخليفة وطاعته وما لهذا المنصب من المكانة الروحية والشرعية
لدى كافة المسلمين، ورغم انهزام يعقوب الا أنه رفض الصلح الذي عرضه عليه الخليفة،
وقد كان يعاني من مرض أطرحه الفراش والذي توفي بسببه سنة 265هـ/879م، فتولى الحكم
من بعده أخوه عمرو بن الليث الذي انتهج سياسة المهادنة مع الخلافة وتحقيق مصالحه
ونفوذه على ما بيده، وفي سنة 269هـ/882م تولى الخلافة المعتضد بالله فاعترف بولاية
عمرو بن الليث وخلع عليه وأرسل له بلواء كبير، وألغى ولاية الطاهريين نهائيا على
خرسان وما جاورها، غير أنّ الصراع تجدد بين السامانيين والصفاريين فانتهز الخليفة
المعتضد بالله فرصة صراعهما لمعرفة القوة الغالبة، وانتهت بهزيمة عمرو الصفار
وأسره سنة 287هـ/900م وإرساله إلى بغداد، وهناك توفي في سجنه سنة 288هـ/901م،
وتدهورت أحوال الدولة الصفارية بعد وفاته رغم استمرار حكمها وراثيا بين الصفاريين
إلى غاية سقوطهم سنة 289هـ/902م[20]. يعقوب بن الليث الصفّار........254-265
هـ عمرو بن الليث.................265-288هـ طاهر بن محمد بن عمرو......288-296هـ الليث بن علي بن الليث.........296-297هـ محمد بن علي....................297-297 هـ المعدل بن علي...................297-298 هـ عمروبنيعقوب.................298-299هـ *
أمراء الدولة الصفارية: المظاهر الحضارية والثقافية للدولة الصفارية: اهتم الصفاريون بالعلم
والعلماء ونشر الثقافة الفارسية، ونشر الإسلام في مختلف المناطق التي امتد إليها
سلطانهم، وكان يعقوب بن الليث الصفاري يكرم العلماء ويقربهم حتى أنه طلب من سهل بن
محمد السجستاني اختصار كتاب في النحو، فأنجز له ذلك وأكرم المحدث عبد الله
البوشنجي محدث مدينة نيسابور ب700 ألف درهم، غير أن يعقوب الصفار كان من أشد الناس
حقدا على العربية ولغتهم حتى أنه شجع العامة على نشر اللغة الفارسية ونظم القصائد
بها، وكتابة الدواوين والسجلات بالفارسية، واهتم أحفاده بالبناء والعمارة الدينية
والمدنية[21]. بدأت الدولة الواسعة التي بناها الأخوان
بالانكماش، فقد أسندت ولاية خراسان إلى السامانيين فيما وراء النهر، ولكن خلفاء
عمرو من أبنائه وأحفاده احتفظوا بفارس وكرمان وسجستان لعقد من الزمان. بقيت الأوضاع مضطربة في سجستان، فتمكن العيارون[22]
سنة 311هـ/923م، من إيصال حفيد من أحفاد الصفاريين إلى حكم سجستان، هو أبو جعفر
أحمد بن محمد بن خلف الذي حكم ما يقارب الأربعين عاماً من 311ـ352هـ/923-963م، وقد
مد أبو جعفر سلطة الصفاريين، وجعل من سجستان قوة في ميدان سياسة العالم الإسلامي
الشرقي، و خلف أبو جعفر ابنه أحمد بن خلف 352ـ393هـ/963-1002م، وقد أنهى محمود الغزنوي حكم الصفاريين
في سجستان حينما استولى عليها[23]. [1]- الذهبي، المصدر السابق، ج10، ص 108. [2]- ابن الأثير، ج5، ص 447. [3]- الذهبي، نفسه، ص 100. [4]- الطبري، ج8، ص 482. [5]- ابن طيفور، أبو الفضل أحمد بن طاهر، كتاب
بغداد، ت محمد زاهد بن الحسين الكوثري، (د ط)، 1949م، ص 69. [6]- ابن طيفور، المصدر السابق، ص ص 9-23. [7]- نفسه، ص ص 23-35. [8]- ابن طيفور، نفسه، ص 83. [9]- ابن طيفور، المصدر السابق، ص145، ومحمد سهيل
طقوش، ص 134. [10]- عطية القوصي، تاريخ الدول المستقلة في المشرق
عن الخلافة العباسية، مكتبة دار النهضة العربية، ط1، 1993م، ص ص 42-46، وطقوش، ص
187. [11]- الكعبي المنجي، الدولة
الطاهرية في خرسان والعراق، مركز النشر الجامعي، تونس، 2005م، ص ص 134-289، و ثريا
حافظ عرفة، الخراسانيون ودورهم السياسي في العصر العباسي الاول، رسالة ماجستير غير
مطبوعة، جامعة الملك عبد العزيز، قسم التاريخ والحضارة الإسلامية، 1980م، ص ص
146-165. [12]- الكعبي المنجي، نفسه، ص
ص 160-165. [13]- هو أبو يوسف يعقوب بن الليث، الملك الصفار
السجستاني، كان يحترف صناعة النحاس، ثم تطوع لمحاربة الخوارج حتى تمكن من تأسيس
إمارة مع أخيه عمرو، وكانت وفاته سنة 265هـ. الذهبي، المصدر السابق، ج 2، ص 513. [14]- من أهل سجستان، احترف مع أخيه صناعة الصفر،
وخلف أخاه في قيادة الجيوش، وتوسيع سلطتهم، وانتهى به الأمر مقتولا في سجون بغداد
سنة 289هـ، نفسه، ص 516. [15]- إحدى بلدان المشرق، وهي ناحية واسعة تقع جنوبي
هراة، وأرضها رملة سبخة، وهي حارة وبها نخيل ولا يرى فيها الجبال، وإليها ينسب
الكثير من العلماء والفقهاء. ياقوت الحموي، ج3، ص ص 190-192. [16]- الطبري، ج9، ص ص 516-529. [17]- ابن الأثير، ج6، ص ص 254-255. [18]- عطية القوصي، المرجع السابق، ص ص 48-49. [19]- عطية القوصي، نفسه، ص 50. [20]- ابن الأثير، ج6، ص ص 254-255. [21]- عطية القوصي، المرجع السابق، ص ص 49-52، وعطية
القوصي، المرجع السابق، ص ص 49-52، وطقوش، ص 190. [22]- اختلفت تسميات المؤرخين لهذه الطائفة من
العامة بين اسم الشطار والعيارين والدهماء والرعاع وأهل السوق، وغيرها، وهي جماعات
من العامة طهرت في هذه الفترة وامتهنوا اللصوصية و سرقة اموال الناس وقطع السبل،
ويرجح الكثير من الباحثين على أنّ ظهورها ارتبط بالفساد السياسي والتدهور
الاقتصادي الذي كانت تعرفه الدول في مراحل ضعفها، ينظر تاريخهم بحث محمد سعيد رضا،
حركة العيارين والشطار، العنف المدني في المجتمع العباسي خلال القرن 4هـ/10م، مجلة
إنسانيات، مجلة جزائرية في الأنتروبولوجية والعلوم الاجتماعية، العدد 75-76 سنة2017م، ص ص 47-63. [23]- ابن الأثير، ج7، ص 498.
طاهر بن الحسين وتفرس فيه النباهة وعلو الهمة
فلما قام المأمون بدعوة الناس لبيعته وخلع الأمين عين طاهراً قائداً على جيوش
خراسان بناء على نصحية الفضل بن سهل ذوالرياستين، ومدبر الدولة[3].
ظهور الدول المستقلة في تاريخ الخلافة العباسية:
الدولة الطاهرية: (205-259هـ/821-872م):
الأصل والنشأة: تنسب الدولة الطاهرية إلى مؤسسها طاهر بن الحسين بن زريق ماهان
الخزاعي، وهوأحد أشهر قواد الخليفة العباسى المأمون،
كان يعرف بذى اليمينين[1]، وقد سيره لمحاربة أخيه الأمين من خراسان لما خلع بيعته فتقدم طاهر إلى بغداد بعد كسر جيش الخليفة بالري وأخذ ما في طريقه من البلاد وحاصر بغداد وقتل الأمين سنه 198هـ/813م، وحمل رأسه إلى خراسان وعقد للمأمون على الخلافة فكان المأمون يرعاه لمناصحته وخدمته، وتوليته على خراسان سنه 205هـ/821م[2]،وكانت هذه الولاية بمثابة حجر الأساس لقيام دولة اشتهرت باسمه في التاريخ، وتوفى فيسنة207هـ/823م.
كان المأمون أكبر سنا من
الأمين ويرى نفسه أجدر بالخلافة من أخيه لذا عمل على ترسيخ أقدامه في خراسان
واستعان على ذلك بشخصيات قوية أمثال الفضل بن سهل، وكان عالماً متبحراً، وكان
عالما متبحرا، وداهية ذا فطنة وفراسة عظيمة فاكتشف مهارة
طاهر بن الحسين وتفرس فيه النباهة وعلو الهمة
فلما قام المأمون بدعوة الناس لبيعته وخلع الأمين عين طاهراً قائداً على جيوش
خراسان بناء على نصحية الفضل بن سهل ذوالرياستين، ومدبر الدولة[3].
بدأت شهرة طاهر بن الحسين عندما استطاع بفضل مهارته الحربية أن ينتصر على الجيوش الكبيرة التي أرسلها الأمين لمحاربة المأمون رغم أن جيش طاهر كان أربعة آلاف فقط في حين أن جيوش الأمين كانت عشرات الآلاف، وأصر المأمون على مواصلة القتال حتى أخذ الأمين فقتله وذلك سنة 198هـ/813م، وأخذ طاهر بن الحسين القضيب والبردة وخاتم الخلافة وأرسل بهم للمأمون[4].
أمر المأمون طاهرا أن يلتقي معه ببغداد فأكرمه وولاه بلاد الجزيرة والسواد وجانبي بغداد واعترف المأمون بفضل طاهر وتفانيه في الخدمة؛ ويعتبر الكاتب ابن طيفور الخرساني (280هـ/893م) أقرب الرواة لعصر المأمون وأخباره، وقد سجل الكثير من الروايات الشفوية عن علاقته بطاهر بن الحسين في قطعة تاريخية نادرة؛ ومنها أنّ المأمون وصف طاهرا قائلاً:"ما حابى طاهر في جميع ما كان فيه أحداً ولا مال لأحد ولا داهن ولا وهن ولا وني ولا قصر في شيء وفعل في جميع ما ركن إليه ووثق به فيه أكثر مما ظن به وأمله، وأنه لا يعرف أحد من نصحاء الخلفاء وكفأتهم فيمن سلف عصره ومن بقي في أيام دولته على مثل طريقته ومناصحته وغنائه وإجزائه"[5].
* تعاقب الطاهريين على حكم خرسان:
لما استقر الأمر للمأمون بالخلافة سنة 198هـ/813مأسند إلى طاهر بن الحسين ولاية خراسان وبقية ولايات المشرق، وولّى ابنه عبد الله على الرقة وعهد إليه بحرب نصر بن شبث الذي خرج على العباسيين لتقريبهم العجم[6].
ولما توفى طاهر سنة 207هـ/822م عهد المأمون إلى عبد الله بن طاهر بولاية خراسان خلفًا لأبيه، فاستخلف عبد الله عليها أخاه طلحة، فاستمر عليها حتى توفي بعد سبع سنين[7].
بعد ذلك اتجه عبد الله بجيشه إلى مصر التي كانت تموج بالفتن والاضطرابات بعد تمرد ولاتها على سلطان العباسيين، فزحف إليها بجيشه –سنة 211هـ/826م، وأرسل إلى عهد بن السري –والي مصر- يدعوه إلى السمع والطاعة للخليفة المأمون، ولكن ابن السري حاول رشوته بهدية كبيرة، أرسلها إليه خفية، فردها عبد الله، وكتب إليه يقول: "لو قبلت هديتك نهارًا لقبلتها ليلاً.. بل أنتم بهديتكم تفرحون"، ولم يجد ابن السري بدًا من الاستسلام، فاستسلم له في 211هـ/826م ودخلها عبد الله واليًا عليها[8].
ظهور حركة بابك الخرمي: (الحركة الخرمية)
حركة بابك الخرمي هي أولى الحركات الخارجة على سلطان الخلافة، والتي كانت واحدة من الفرق الهدامة التي تدعو إلى إباحة الأموال والنساء، وتستحل القتل والغصب، وأراد بابك أن يحرك مشاعر الفرس لتأييده، فأشاع أنه من نسل فاطمة بنت أبي مسلم الخراساني، وأنه جاء لإقامة دولة الفرس، واستفحلت تلك الحركة، واشتد خطرها بعد أن استحل بابك دماء المسلمين والذميين على حد سواء، وتوفي المأمون دون أن يحسم أمر ثورته؛ فكانت من وصاياه لأخيه المعتصم بالقضاء عليها[9].
* الجوانب الحضارية للدولة الطاهرية:
اتبع عبد الله بن طاهر طريقة مثلى في إقامة أركان إمارته الناشئة؛فاهتم بتنظيم النواحي الإدارية فيها، فكان يشدد الرقابة على عماله، ويحاسبهم على ما يخولهم فيه من سلطات إدارية، وكان حريصًا على الكتابة إليهم ومتابعتهم؛ فَسَادَ في عهده العدل والإنصاف، وشهدت الدولة الطاهرية –في عهد عبد الله بن طاهر- ازدهارًا اقتصاديًا ملحوظًا، فقد اهتم بالزراعة وهو ما أدى إلى تنوع المحاصيل، وشق الترع وقنوات الري، وعندما اشتد النزاع بين المزارعين حول استخدام تلك القنوات أصدر عددًا من التشريعات والقوانين التي تنظم العلاقة بين المزارعين في استخدامها[10].
شهدت الحياة الفكرية والعلمية والثقافية نهضة كبيرة في عهد عبد الله بن طاهر، فكان يشجع العلماء والأدباء والشعراء، وكان هو ذاته شاعرًا بليغًا يهتم باللغة العربية وفنونها وآدابها، فالتف حوله عدد من الأدباء والعلماء والفقهاء، منهم أبو عبيد الله القاسم بن سلام –المتوفى سنة 224هــ/839م، وارتبط به كذلك يوحنا بن ماسويه الطبيب المشهور، وألف له كتاب: "الصداع وعلله وأوجاعه وجميع أدويته"[11].
*مرحلة الضعف ونهاية الدولة:
بعد وفاة عبد الله بن طاهر ولى الخليفة الواثق أعمال عبد الله كلها ابنه طاهر بن عبد الله 230ـ 248هـ/845-863م، ثم تعاقب على حكم الدولة أمراء ضعاف، لم يصمدوا في وجه ثورات الخوارج والشيعة، وفي عهد محمد بن طاهر استفحلت ثورة الخوارج في سجستان، وأخفق واليها من قبل الطاهريين في إخمادها، فتولى أمر الثورة المتطوعة وعلى رأسهم يعقوب بن الليث الصفار، مؤسس الدولة الصفارية والذي كانت نهاية الطاهريين على يده سنة 259هـ/874م[12].
المحاضرة السادسة: الدولة الصفارية (254-290هـ/868-902م).
الأصل والنشأة:
يرجع ظهور الدولة الصفارية إلى مؤسسها يعقوب بن الليث الصفار[13]، رجل من عامة الناس، وقد عرف بهذا اللقب نسبة إلى حرفته التي اشتهر بها في بداية حياته؛ وهي صناعة النحاس الأصفر، وتعرف بصناعة الصفر ويقصد به النحاس، وقد احترفها مـع أخيه عمرو بن الليث[14] بأجر شهري قدره 15 درهما في مدينة سجستان[15]، ويعود أصل هذه الأسرة بحسب عدة روايات تاريخية إلى أنها تنحدر من جبال الشاش شرق فارس، بينما أهملت روايات أخرى أصلها ونسبها.
كانت ولاية سجستان من الولايات التابعة لحكم الطاهريين، وقد انتشر فيها الخوارج وزادت شوكتهم بعد ضعف بيت الطاهريين في آخر عهدهم مما صعب عليهم مهمة القضاء عليهم، وقد دفع هذا الأمر الأهالي من العامة إلى تشكيل فرق من المتطوعة إلى مواجهتم، وكان يعقوب بن الليث الصفار أحد قادة الفرق المتطوعة،وهذا في خلافة المتوكل على الله[16].
لم يتمكن والي العباسيين على سجستان من المواجهة فتخلى عن ولايته فخلفه قائد الفرق المتطوعة وهو درهم بن الحسين مع مساعدة يعقوب بن الليث الصفاري غير أن ضعف شخصيته، وعدم ميل العامة له عجّل بإزاحته وتعيين يعقوب بن الليث واليا على سجستان، وقد أبدى قوة وشجاعة في مواجهة الخوارج ونشر الأمن والسلام فأعجب به أتباعه و أطاعوه[17].
بدأ يعقوب بن الليث الصفاري في توسيع نفوذه في بقية المدن التي كانت خاضعة للطاهريين حتى تمكن من أسر العديد من ولاتها، ولم يطلق سراحهم حتى تدخل الخليفة المعتز بالله (252-255هـ/866-869م)، وكان هذا أول اتصال للصفاريين بالخلافة العباسية، وفي سنة 255هـ/869م استطاع يعقوب بن الليث السيطرة على أجزاء كبيرة من مدن ما وراء النهر (نهرجيحون)، وإقليم خراسان منها: فارس وشيراز وكرمان وبلخ وكابل[18].
علاقة الصفاريين بالخلافة العباسية:
لاحظ العباسيون قوة الصفاريين وهي تتعاظم على حساب ولاتهم الطاهريين، وبعد دخول يعقوب بن الليث مدينة نيسابور وإلقاء القبض على آخر ولاة خرسان من الطاهريين وهو الأمير محمد بن طاهر، وخشية غضب الخليفة العباسي المعتمد على الله (256-279هـ/870-883م) قام بإرسال رسالة إلى الخليفة العباسي يوضح له فيها أن ما قام به كان بطلب من عامة خرسان بسبب غضبهم على الطاهريين وظلمهم لهم، وهو يطلب عفو الخلافة وإنصافها له، وقد استجاب الخليفة لأمره ومنحه في أول الأمر الحكم على ما في يده من أراضي ولكن علاقة الصفار بالخلافة لم تهدا تماماً بسبب طموحات الصفار في العراق نفسها فأصدر الخليفة منشورا يعزل فيه الصفار ويلعنه؛ بل وأثار الناس عليه في الحج[19].
تطور الخلاف بين الصفاريين والخلافة العباسية بحيث زحف يعقوب بن الليث على العراق لمواجهة الجيوش العباسية، فرحل الخليفة من سامراء إلى بغداد استعدادا منه للتصدي والمواجهة، وقد تمكن الصفاريون من دخول مدينة واسط، غير أن الجيوش العباسية واجهتهم بقوة وحزم خارجها وأدت المعركة إلى انهزام جيش الصفاريين في رجب سنة262هـ/876م، وكان من أسباب هزيمة الصفاريين هو تخاذل جندهم وشعورهم بالمهانة وهم يواجهون الخليفة العباسي لما في رقابهم من فروض بيعة الخليفة وطاعته وما لهذا المنصب من المكانة الروحية والشرعية لدى كافة المسلمين، ورغم انهزام يعقوب الا أنه رفض الصلح الذي عرضه عليه الخليفة، وقد كان يعاني من مرض أطرحه الفراش والذي توفي بسببه سنة 265هـ/879م، فتولى الحكم من بعده أخوه عمرو بن الليث الذي انتهج سياسة المهادنة مع الخلافة وتحقيق مصالحه ونفوذه على ما بيده، وفي سنة 269هـ/882م تولى الخلافة المعتضد بالله فاعترف بولاية عمرو بن الليث وخلع عليه وأرسل له بلواء كبير، وألغى ولاية الطاهريين نهائيا على خرسان وما جاورها، غير أنّ الصراع تجدد بين السامانيين والصفاريين فانتهز الخليفة المعتضد بالله فرصة صراعهما لمعرفة القوة الغالبة، وانتهت بهزيمة عمرو الصفار وأسره سنة 287هـ/900م وإرساله إلى بغداد، وهناك توفي في سجنه سنة 288هـ/901م، وتدهورت أحوال الدولة الصفارية بعد وفاته رغم استمرار حكمها وراثيا بين الصفاريين إلى غاية سقوطهم سنة 289هـ/902م[20].
يعقوب بن الليث الصفّار........254-265 هـ |
عمرو بن الليث.................265-288هـ |
طاهر بن محمد بن عمرو......288-296هـ |
الليث بن علي بن الليث.........296-297هـ |
محمد بن علي....................297-297 هـ |
المعدل بن علي...................297-298 هـ |
عمروبنيعقوب.................298-299هـ |
* أمراء الدولة الصفارية:
المظاهر الحضارية والثقافية للدولة الصفارية:
اهتم الصفاريون بالعلم والعلماء ونشر الثقافة الفارسية، ونشر الإسلام في مختلف المناطق التي امتد إليها سلطانهم، وكان يعقوب بن الليث الصفاري يكرم العلماء ويقربهم حتى أنه طلب من سهل بن محمد السجستاني اختصار كتاب في النحو، فأنجز له ذلك وأكرم المحدث عبد الله البوشنجي محدث مدينة نيسابور ب700 ألف درهم، غير أن يعقوب الصفار كان من أشد الناس حقدا على العربية ولغتهم حتى أنه شجع العامة على نشر اللغة الفارسية ونظم القصائد بها، وكتابة الدواوين والسجلات بالفارسية، واهتم أحفاده بالبناء والعمارة الدينية والمدنية[21].
بدأت الدولة الواسعة التي بناها الأخوان بالانكماش، فقد أسندت ولاية خراسان إلى السامانيين فيما وراء النهر، ولكن خلفاء عمرو من أبنائه وأحفاده احتفظوا بفارس وكرمان وسجستان لعقد من الزمان.
بقيت الأوضاع مضطربة في سجستان، فتمكن العيارون[22] سنة 311هـ/923م، من إيصال حفيد من أحفاد الصفاريين إلى حكم سجستان، هو أبو جعفر أحمد بن محمد بن خلف الذي حكم ما يقارب الأربعين عاماً من 311ـ352هـ/923-963م، وقد مد أبو جعفر سلطة الصفاريين، وجعل من سجستان قوة في ميدان سياسة العالم الإسلامي الشرقي، و خلف أبو جعفر ابنه أحمد بن خلف 352ـ393هـ/963-1002م، وقد أنهى محمود الغزنوي حكم الصفاريين في سجستان حينما استولى عليها[23].
[1]- الذهبي، المصدر السابق، ج10، ص 108.
[2]- ابن الأثير، ج5، ص 447.
[3]- الذهبي، نفسه، ص 100.
[4]- الطبري، ج8، ص 482.
[5]- ابن طيفور، أبو الفضل أحمد بن طاهر، كتاب بغداد، ت محمد زاهد بن الحسين الكوثري، (د ط)، 1949م، ص 69.
[6]- ابن طيفور، المصدر السابق، ص ص 9-23.
[7]- نفسه، ص ص 23-35.
[8]- ابن طيفور، نفسه، ص 83.
[9]- ابن طيفور، المصدر السابق، ص145، ومحمد سهيل طقوش، ص 134.
[10]- عطية القوصي، تاريخ الدول المستقلة في المشرق عن الخلافة العباسية، مكتبة دار النهضة العربية، ط1، 1993م، ص ص 42-46، وطقوش، ص 187.
[11]- الكعبي المنجي، الدولة الطاهرية في خرسان والعراق، مركز النشر الجامعي، تونس، 2005م، ص ص 134-289، و ثريا حافظ عرفة، الخراسانيون ودورهم السياسي في العصر العباسي الاول، رسالة ماجستير غير مطبوعة، جامعة الملك عبد العزيز، قسم التاريخ والحضارة الإسلامية، 1980م، ص ص 146-165.
[12]- الكعبي المنجي، نفسه، ص ص 160-165.
[13]- هو أبو يوسف يعقوب بن الليث، الملك الصفار السجستاني، كان يحترف صناعة النحاس، ثم تطوع لمحاربة الخوارج حتى تمكن من تأسيس إمارة مع أخيه عمرو، وكانت وفاته سنة 265هـ. الذهبي، المصدر السابق، ج 2، ص 513.
[14]- من أهل سجستان، احترف مع أخيه صناعة الصفر، وخلف أخاه في قيادة الجيوش، وتوسيع سلطتهم، وانتهى به الأمر مقتولا في سجون بغداد سنة 289هـ، نفسه، ص 516.
[15]- إحدى بلدان المشرق، وهي ناحية واسعة تقع جنوبي هراة، وأرضها رملة سبخة، وهي حارة وبها نخيل ولا يرى فيها الجبال، وإليها ينسب الكثير من العلماء والفقهاء. ياقوت الحموي، ج3، ص ص 190-192.
[16]- الطبري، ج9، ص ص 516-529.
[17]- ابن الأثير، ج6، ص ص 254-255.
[18]- عطية القوصي، المرجع السابق، ص ص 48-49.
[19]- عطية القوصي، نفسه، ص 50.
[20]- ابن الأثير، ج6، ص ص 254-255.
[21]- عطية القوصي، المرجع السابق، ص ص 49-52، وعطية القوصي، المرجع السابق، ص ص 49-52، وطقوش، ص 190.
[22]- اختلفت تسميات المؤرخين لهذه الطائفة من العامة بين اسم الشطار والعيارين والدهماء والرعاع وأهل السوق، وغيرها، وهي جماعات من العامة طهرت في هذه الفترة وامتهنوا اللصوصية و سرقة اموال الناس وقطع السبل، ويرجح الكثير من الباحثين على أنّ ظهورها ارتبط بالفساد السياسي والتدهور الاقتصادي الذي كانت تعرفه الدول في مراحل ضعفها، ينظر تاريخهم بحث محمد سعيد رضا، حركة العيارين والشطار، العنف المدني في المجتمع العباسي خلال القرن 4هـ/10م، مجلة إنسانيات، مجلة جزائرية في الأنتروبولوجية والعلوم الاجتماعية، العدد 75-76 سنة2017م، ص ص 47-63.
[23]- ابن الأثير، ج7، ص 498.
- Teacher: hakmi habib