لقد سعى الإنسان منذ أن وُجد على وجه الأرض إلى معرفة ماهية الأشياء وحقائق عالمه الدّاخلي وخبايا الطبيعة الخارجية، وفهم ما يحدث من حوله، فتراكمت المعارف تدريجيا إلى أن تضاعفت بشكل متسارعٍ جدًا، وتجاوزت منذ مطلع القرن الثامن عشر أطرها الضيقة والمحصورة، وتحوّلت إلى شأنٍ عمومي في مختلف المجتمعات الإنسانية، وذلك بفضل تنامي مطالب الحرية والمساواة والانفتاح على الآخر، واقتناص الأفراد حقهم الكامل في التربية والتعليم واكتساب المعرفة، حتى أصبح ت مسألة اكتساب المعارف المختلفة مرتبطة بمصير أي مجتمع وانتمائه إلى الزمن العالمي.
ومع دخول البشرية إلى هذا الزمن التاريخي غير المسبوق؛ وهو زمن الانفجار العلمي بمستوى يفوق حصيلة كل خيالنا العقلاني الذي سبق وأن خلفته الثورات العلمية التي أعقبت الثورة الفرنسية ، وبمستوى من  العمومية بحيث يكتسح بشكل كامل المجتمع الإنساني جميعه، فـثورة تكنولوجيا المعلومات هي ثورةٌ لا ينتهي مدها الثوري عند نقطة أو مرحلة معينة، إذ خلّفت الثورات: الاقتصادية (معايير السوق)، الثورة الرقمية (الهجرة إلى العالم الافتراضي)، والثورة الجينية (اكتشاف DNA)، وثورة النانو تكنولوجيا....الخ، حتى أصبح الحديث اليوم عن المعرفة ضمن المشروع الحضاري الشامل لأي مجتمع؛ ويفرض عليه استعدادًا وتكوينًا وتأهيلاً مستمرًا لأجل تملّكها والقدرة على استيعابها والعمل بها في شتى المناحي الحياتية، بعيدًا عن الموقع التوسطي الأداتي الذي يعني التعامل مع المعرفة بوصفها مجرد أجهزة وتقنيات ووسائل، والذي يحمل مؤشرات العجز والاتكالية في زمنٍ لم تعد فيه المعرفة حكرًا على منطقة أو حضارة بعينها بفضل التكنولوجيات الجديدة للإعلام والاتصال التي سهّلت مهمّة وسائط نقل المعرفة وتداولها، ومكّنت الأفراد من الانتهال من مصادر المعلومة والمعرفة رغم اللاّ تكافؤ الواقعي بين الدّول، بحكم أنّ الغرب هو المالك الأكبر لسوق المعرفة في العالم، وتقاسم الرأسمال المعرفي مرتبط بضوابط تقنية تحكمه كما يشترط مفاوضات تراعي مصالحه الكبرى، ولعل المعرفة الخاصّة بالتكنولوجيا النووية هي أكبر دليل على هذا الأمر.

لذلك، لا يمكن اختزال مفهوم "مجتمع المعرفة" في مجرد امتلاك مجموعة تقنيات، بل هو اقتناع راسخ بالدور المصيري للمعرفة في أيّ تنمية اجتماعية، واعتبارها منهج عمل وإنتاجية تشترط المواكبة المستمرة والدائمة للتطورات المعرفية العالمية.