من خلال هذه الدروس الموجهة لطلبة السنة الثالثة تخصص فانون عام نهدف هذه الدروس إلى شرح ونوضيح محتوى مقياس القانون والقضاء الدولي الجنائي وفقا لما هو مبرمج في البرنامج الوزاري الموجه للطلبة
- معلم: مبطـــــوش الحــــاج
محاضرات موجهة لطلبة السنة ثالثة قانون عام
في مقياس القضاء الدولي الجنائي
تم اعدادها من طرف الاستاذ الدكتور : مبطوش الحاج
2020/2021
أي استفسار يوجه على الاميل التالي
mebtoucheelhadj@yahoo.fr
القضاء الجنائي الدولي.(النطاق التطبيقي للقانون الجنائي الدولي)
يطبق القانون الجنائي الدولي تطبيقا غير مباشر بواسطة القضاء الجنائي الداخلي للدول، و ما يهمنا أكثر هو التطبيق المباشر عن طريق المحاكم الجنائية الدولية.
و لقد عرف المجتمع الدولي تطبيقات مباشرة لقواعد هذا القانون منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى يومنا هذا، و تم إنشاء محاكم جنائية دولية مؤقتة أو ظرفية أو خاصة لمواجهة أوضاع و ظروف خاصة أو مستعجلة، تمثلت في المحكمة الجنائية الدولية لنورمبروغ و محكمة طوكيو و كلاهما محاكم دولية ذات طابع عسكري عقب الحرب العالمية الثانية.
و تأسست كذلك كل من محكمتي يوغسلافيا السابقة و رواندا بعد ذلك في مطلع التسعينات من القرن الماضي، و هما ذات طبيعة جنائية دولية من إنشاء مجلس الأمن الدولي.
و مع ضرورة وجود آلية ضرورية قضائية جنائية دولية دائمة و التي دخلت حيز النفاذ فعليا سنة 2002، و سنتناول دراسة هذه الآليات وفق المباحث التالية:
المبحث الأول المحكمة الجنائية الدولية لكل من نورمبورغ و طوكيو،المبحث الثاني المحكمة الجنائية الدولية لكل من يوغسلافيا السابقة و رواندا،المبحث الثالث المحكمة الجنائية الدولية.
المبحث الأول: المحكمة الجنائية الدولية لكل من نورمبورغ و طوكيو.
نجم عن الاعتداءات الصارخة و الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان و الدمار الهائل للممتلكات أثناء الحرب العالمية الثانية، مطالبة كل من الفقه و رجال السياسة، بموجب محاكمة الأفراد المتهمين و المسئولين مهما كانت صفتهم، عن ارتكاب الجرائم الدولية التي اقترفوها.
و لذلك تم تأسيس محاكم جنائية دولية في نورمبورغ و طوكيو للنظر في تلك الاعتداءات و من ثم نعالج هذا المبحث في المطلبين التالين: المطلب الأول سنتناول فيه المحكمة الجنائية الدولية لنورمبورغ، وفي المطلب الثاني سنتطرق فيه إلى المحكمة الجنائية الدولية لطوكيو.
المطلب الأول: المحمكمة الجنائية الدولية لنورمبورغ.
إن الجرائم الفظيعة التي ارتكبت خلال الحرب العالمية الأولى و الثانية، و التي كثيرا ما كانت غير محددة بنطاق جغرافي، و خشية من تهرب الدول من محاكمة و معاقبة المسئولين عن هذه الجرائم، أو عدم تسليمهم لأسباب سياسية، دفعهم ذلك إلى تأسيس محاكم جنائية دولية.و بعدما وقعت ألمانيا على وثيقة الاستسلام في 8 ماي 1945، عقدت اتفاقية لندن بين الحلفاء في 8 أوت 1945 لوضع بيان موسكو لعام 1943 موضع التنفيذ، و التي أسست محكمة نورمبورغ.
و سوف ندرس دور المحكمة، و سنوضحه من خلال الفروع التالية:
الفرع الأول: اختصاصات المحكمة ،الفرع الثاني تحمل الفرد المسؤولية الدولية الجنائية،الفرع الثالث الإجراءات أمام المحكمة،الفرع الرابع النتائج المستخلصة من المحاكمة.
الفرع الأول: اختصاصات المحكمة.
لقد تأسست اتفاقية لندن لـــ 8 أوت 1945 محكمة نورمبورغ في مادتها الأولى، كما حددت المادة الثانية النظام الخاص للمحكمة و الذي يعتبر جزءا مكملا للإتفاقية و يسمى لائحة نورمبورغ، و تتكون من 30 مادة.
و تتكون المحكمة من 4 قضاة يمثلون دول الحلفاء، ينتخبون رئيسهم، و تصدر الأحكام بالأغلبية المطلقة، و يرجح صوت الرئيس عند التساوي، و إذا كان حكم الإدانة يجب أن يصدر بــــــــ 4/3 الأصوات، و هناك لجنة الإدعاء التي تتكون من ممثل لكل دول الحلفاء الأربع، كما نصت عليه 14 من لائحة نورمبورغ، و ما يلاحظ هو أن تشكيل المحكمة يخالف مبدأ حياد القضاء.
تعتبر محكمة نورمبورغ محكمة جنائية دولية مؤقتة، لها اختصاص إقليمي و زمني محددين، يتمثل في محاكمة مجرمي الحرب في بلاد المحور الأوروبي عما ارتكبوه من جرائم دولية خلال الحرب العالمية الثانية.
أما الاختصاص الموضوعي للمحكمة فلقد نصت عليه المادة 6 من لائحة نورمبورغ، وعددتها في الجرائم ضد السلام و جرائم الحرب و الجرائم ضد الإنسانية.
·جرائم ضد السلام: و تتمثل في إثارة أو مباشرة أو متابعة حرب الاعتداء و انتهاك حرمة المعاهدات و الاتفاقيات الدولية.
·جرائم حرب: و تشمل مخالفة قوانين و أعراف و عادات الحرب، مثل: أعمال القتل ضد السكان المدنيين، و قتل أسرى الحرب و سوء معاملتهم، و قتل الرهائن، و تسخير العمال، و سرقة الأموال العامة و الخاصة.
·الجرائم ضد الإنسانية: مثل القتل، الإبادة، الاستراق، الإبعاد و الاضطهاد، و كل الأعمال غير الإنسانية المرتكبة ضد السكان المدنيين قبل أو أثناء الحرب.
إن محكمة نورمبورغ تختص بمحاكمة الأفراد المسئولين عن ارتكاب جرائم ضد السلام و جرائم الحرب و جرائم ضد الإنسانية التي ليس لها تحديد جغرافي معين، أما باقي الجرائم المرتكبة تخضع لمبدأ الإقليمية وفقا للقوانين الجنائية الوطنية.
و تتمثل جرائم ضد السلام في حرب الإعتداء، و خرق أحكام المعاهدات الدولية التي تحرم اللجوء إلى الحرب العدائية لفض النزاعات الدولية، خاصة ميثاق بريان كيلوج لعام 1928، الذي اعتبر الحرب عملا غير مشروع، و الذي التزمت به دول المحور بعدم اللجوء إلى هذا الأسلوب لحل نزاعاتها.
أما جرائم الحرب التي تتمثل في انتهاك قوانين و أعراف الحرب، و التي نصت عليها اتفاقيات لاهاي لعام (1899 و 1907)، التي تكون قانون لاهاي، و الذي يعتبر جزء من القانون الدولي الإنساني على كثير من قواعد الحرب السالفة الذكر.
و الطائفة الثالثة، هي الجرائم ضد الإنسانية التي شكلت جرائم الاظطهاد و الإبادة محورها قبل أن تتطور و تصاغ في اتفاقية دولية خاصة بها عام 1948.
أنشأت الجريمة الدولية التي قسمتها لائحة نورمبورغ إلى ثلاثة طوائف، القانون الدولي الجنائي الذي طبقه قضاء نورمبورغ كآلية دولية لتنفيذه، إلى جانب القانون الدولي الإنساني المتمثل أساسا في قانون لاهاي، مما يعني عدم استغناء القانونين إلى محكمة جنائية دولية تختص بمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية، حماية لحقوق الإنسان و الحريات الأساسية، و تدعيمها لحفظ السلم و الأمن الدوليين، وهي من أولويات أهداف المجتمع الدولي.
الفرع الثاني: تحمل المسؤولية الدولية الجنائية.
نصت المادة 6 من لائحة نورمبورغ على أن "المحكمة العسكرية الدولية المقرر إنشاؤها وفقا للإتفاق المنصوص عليه في المادة الأولى على معاقبة كبار مجرمي الحرب في بلاد المحور الأوروبي، تختص بمحاكمة و معاقبة كل الأشخاص الذين ارتكبوا لحساب دول المحور، بصفتهم الفردية أو بصفتهم أعضاء في منظمات، إحدى الجرائم المنصوص عليها أدناه، على أن الأفعال الآتي ذكرها أو أي فعل منها تكون جرائم خاضعة لاختصاص المحكمة و ترتب المسؤولية الفردية:
·الجرائم ضد السلام، ب- جرائم الحرب، جــ- الجرائم ضد الإنسانية.
يتضح من نظام المحكمة أنها رتبت المسؤولية الدولية الجنائية على عاتق الأفراد، سواء بصفتهم العادية أو الرسمية، و قدرتهم على ارتكاب الجرائم الدولية بالمخالفة للقانون الدولي الاتفاقي أو العرفي، و يعتبر مرتكبا للجرائم الدولية السابقة، كل فاعل أصلي، و كل من نظم أو عرض أو اشترك أو ساهم، بأية طريقة في تجهيز أو تنفيذ تلك الجرائم، مهما كانت صفة الجاني جنديا أو قائدا أو رئيسا
كما نصت المادة 7 من لائحة نورمبورغ على عدم الاعتداء بحصانة الرئيس أو كبار الموظفين، و كذلك نصت المادة 8 على عدم الأخذ بمبدأ الأمر الصادر من الرئيس الأعلى للإعفاء من المسؤولية، و إنما أن يكون سببا لتخفيف العقوبة حسب تقدير المحكمة، و هي نفس النقاط التي أثارها الدفاع في حق المتهمين،و جاء في حكم المحكمة أن "مبدأ القانون الدولي الذي في ظروف معينة يحمي ممثلي الدولة، لا يطبق على الأفعال التي يعتبرها القانون الدولي مكونة لجرائم، فلا يستطيع مرتكبوا هذه الأفعال الاحتجاج بصفتهم الرسمية للخروج من الاجراءات العادية أو الهروب من العقاب"
اعتبرت محكمة نورمبورغ المبادئ القانونية المعتمدة في وقت السلم مثل: مبدأ الحصانة، مبدأ أعمال السيادة، و مبدأ الأمر الصادر من الرئيس الأعلى، لا يؤخذ بها في وقت الحرب لجسامة هذه الجرائم، و استبعاد أي مبرر قانوني للإعفاء من المسؤولية الدولية، حتى و لو ارتكبت هذه الجرائم باسم و لحساب الدولة، و إنما تقع المسؤولية الدولية على الأفراد. فالجريمة ضد السلام هي من فعل الدولة المادي و مع ذلك تقع المسؤولية على الأفراد الراسمين المخططين و المنفذين. و لأول مرة تم إعمال المسؤولية الدولية الجنائية للأفراد أمام محكمة جنائية دولية، و تم تطبيق فكرة الجزاء في القانون الدولي، و الاعتراف بقدرة الفرد على خرق الالتزامات الدولية، و على تمتعه بمركز دولي و بشخصية دولية أمامها.
كرست كل من لائحة نورمبورغ و الأحكام الصادرة عنها الجرائم الدولية المتمثلة في الطوائف الثلاثة أساسا للمسؤولية الدولية النائية للفرد، و لأول مرة كذلك تمت محاكمة الأفراد المسئولين على أساس هذه الجرائم.
و الجريمة الدولية كما عرفها الفقيه" GLASSER" هي الفعل الذي يرتكب إخلال بقواعد القانون الدولي للإضرار بالمصالح التي يحميها هذا القانون مع الاعتراف له قانونا بصفة الجريمة و استحقاق فاعله العقاب.
تعد الجريمة الدولية كأساس لمسؤولية الفرد، كما طبقتها محكمة نورمبورغ ترتكب بالمخالفة للمصالح التي يحميها القانون الدولي، مع وجوب محاكمة و معاقبة مرتكبيها، إلا أن تحديد لائحة نورمبورغ للجرائم الدولية بتقسيمها إلى ثلاث أنواع، و عدم النص عليها إلا لاحقا، يعتبر تعديا على مبدأ الشرعية، و هذا ما قامت به لجنة القانون الدولي C.D.I التابعة للأمم المتحدة، بإعداد مشروع تقنين الجرائم ضد السلم و أمن الإنسانية عام 1954، لتفادي الاعتداء على هذا المبدأ، و كذلك مبدأ عدم رجعية القانون، و هي الانتقادات التي وجهت إلى المحكمة.
الفرع الثالث: الإجراءات أمام المحاكمة.
نتناول في هذا الفرع التحقيقات و إعداد لائحة الاتهام، ثم إجراءات المحاكمة، ثم العقوبات التي تصدرها المحكمة، و أخيرا تنفيذ أحكام المحكمة.
أولا- التحقيقات و إعداد لائحة الاتهام:
إجراء التحقيقات مع كبار مجرمي الحرب و المسئولين عن ارتكاب الجرائم الدولية، هي من اختصاص النيابة العامة للمحكمة و التي تعمل على:
·جمع الأدلة و مباشرة الملاحقة ضد المجرمين الذين يجب حصرهم و إحالتهم على المحكمة.
·التحري عن الأدلة الضرورية و جمعها و تهيئتها، قبل الدعوى أو أثناها.
·التحقيق و استجواب المتهمين استجوابا أوليا، و كذلك استجواب الشهود الذين يكون سماعهم ضروريا قبل المحاكمة.
·القيام بأي عمل يبدو لها ضروريا لتهيئة و متابعة الدعوى.
· لا يجوز سحب أي متهم تحتجزه إحدى الدول الموقعة، من حراستها دون موافقتها.
·القيام بدور النيابة العامة في الدعوى.
·تهيئة لائحة الاتهام و الموافقة عليه و الوثائق المرفقة به و إحالته إلى المحكمة كما تسلم إلى المتهم نسخة من هذه اللائحة و الوثائق المرفقة به.
تعتبر النيابة العامة سلطة اتهام، و تتهم كل شخص مشتبه فيه، بعد جمع الأدلة، و المعلومات، تبدأ التحقيقات و الاستجوابات الأولية و توجيه التهم، و سماع الشهود، و إعداد عريضة الاتهام بعد موافقة النيابة عليها بالأغلبية و إحالتها للمحكمة.
ثانيا – إجراءات المحاكمة:
يكون من اختصاص المحكمة دعوة الشهود للإدلاء بشهادتهم، و تحليفهم اليمين، و استجواب المتهمين، و طلب إبراز الوثائق و كل عناصر الأدلة، و تعيين مندوي المحكمة بجمع الأدلة عن طريق الإنابة، كما يرجع إلى السلطة التقديرية للمحكمة بتقدير القيمة الإثباتية للأدلة و الوثائق، و لها سلطة تسيير الجلسات.
و تبدأ إجراءات المحاكمة قضية تلوى الأخرى، بحيث يقرأ لائحة الاتهام في الجلسة، و تسأل المحكمة كل متهم عما إذا كان سيدافع عن نفسه كمذنب أو غير مذنب، و تجوز المحاكمة غيابيا.ثم تتقدم النيابة العامة بطلباتها، و تسأل المحكمة بعد ذلك النيابة العامة و الدفاع عن الأدلة التي ينوون تقديمها لتصدر قرارها في مبدأ قبول هذه الأدلة، بعدها تستمع المحكمة إلى شهود الاتهام و شهود الدفاع و مناقشتهم، و يجوز للمحكمة أن تسأل كل شاهد و كل متهم في أي وقت، و يحق بعد ذلك للدفاع أن يرافع، في الأخير لكل متهم أن يدلي بتصريح للمحكمة، كآخر إجراء قبل المداومة و إصدار الحكم.
يعاب على محاكمات نورمبورغ، أنها تتنافى مع مبدأ حياد القضاء، إلا أنها لم تكن محاكمات صورية أو شكلية، بل طبقت المحكمة أصول الإجراءات الواردة في نظامها، و قيامها بالتحقيقات و الاستجوابات اللازمة، و جمع الأدلة و السماع إلى الشهود، مع إعطاء ضمانات للمتهمين خاصة حق الدفاع، فالفرد يشارك في إجراءات المحاكمة على أساس تمتعه بمركز دولي و بشخصية دولية.
ثالثا – الأحكام التي تصدرها المحكمة:
نصت المادة 26 من لائحة نورمبورغ على أن الأحكام الصادرة عنها تكون مسببة سواء صدرت بالبراءة أو الإدانة، و تكون الأحكام نهائية غير قابلة للإستئناف و هذا ينقص من ضمانات المحاكمة العادلة.و نصت المادة 27 من لائحة نورمبورغ على عقوبة الإعدام، و تركت للمحكمة السلطة التقديرية في تحديد العقوبات الأخرى، كما يجوز لها حرمان المتهم من الملكية المسروقة و مصادرتها لفائدة مجلس الرقابة على ألمانيا وفقا للمادة 28 من اللائحة .
و أصدرت محكمة نورمبورغ الأحكام التالية:
·الحكم بالإعدام على 12 متهما.
·الحكم بالسجن المؤبد على 3 من المتهمين.
·الحكم بالسجن لمدة 20 سنة على 2 من المتهمين.
·الحكم بالسجن لمدة 15 سنة على أحد المتهمين.
·الحكم بالسجن لمدة 17 سنة على أحد المتهمين.
·الحكم بالبراءة على 3 من المتهمين.
طبقت المحمة عقوبة الإعدام، أما العقوبات الأخرى استعملت سلطتها التقديرية على أساس القياس على العقوبات الواردة في القوانين الداخلية لدول الحلفاء خاصة، نظرا لعدم وجود تقنين عقوبات دولي، يقنن الجرائم الدولية و العقوبات المقابلة لها إعمالا لمبدأ الشرعية، و هناك جانب من الفقه يعتبر أن محكمة نورمبورغ لم تحترم المبادئ الأساسية للقانون الدولي خاصة مبدأ الشرعية، و مبدأ عدم رجعية القانون ، كما أسلفنا.
رابعا – تنفيذ أحكام المحكمة:
نصت المادة 29 من لائحة نورمبورغ على أنه في حالة الإدانة، تنفذ أحكام المحكمة وفقا لأوامر مجلس الرقابة على ألمانيا، الذي من حقه تخفيض الأحكام أو تعديلها، دون أن يكون من حقه تشديدها.
فمجلس الرقابة على ألمانيا يختص بتنفيذ أحكام المحكمة، و الذي تشرف عليه دول الحلفاء، وله حق تخفيض الأحكام دون حق العفو، و هذا لتعارضه مع خصائص الجريمة الدولية التي تتسم بالخطورة و الجسامة، و جواز التسليم و عدم التقادم ، و استبعاد الحصانات و استبعاد نظام العفو.
إن إعطاء مجلس الرقابة، حق تخفيض الأحكام لم يكن على أساس اعتباره محكمة استئناف، لأن الأحكام نهائية، و إنما على أساس أن مجلس الرقابة يعتبر سلطة سياسية عليا في ألمانيا.
الفرع الرابع: النتائج المستخلصة من المحاكمة.
أرست محاكمات نورمبورغ مبادئ قانونية اعترف بها المجتمع الدولي، فلقد طبقت فكرة الجزاء الجنائي في القانون الدولي، و أقرت المسؤولية الجنائية للفرد على أساس ارتكاب جرائم دولية، نتيجة الشخصية الدولية للفرد.فالمحكمة حملت الفرد بصفته الرسمية أو العادية، المسؤولية الجنائية الدولية نتيجة خرقه التزامات دولية، و ارتكاب جرائم دولية على أساس تمتعه بشخصية دولية، و أضفت عليه مركزا دوليا أمامها.
و لقد وافقت الأمم المتحدة في 11 ديسمبر 1946 بالتأكيد على المبادئ التي أخذت بها محكمة نورمبورغ، و اعتبرتها جزءا من القانون الدولي، و عهدت إلى لجنة القانون الدولي C.D.I بصياغة هذه المبادئ في 21 نوفمبر 1947، و كذا إعداد مشروع تقنين الجرائم المخلة بسلم الإنسانية و أمنها .
و فعلا صاغت لجنة القانون الدولي المبادئ المستخلصة من النظام الأساسي و أحكام محكمة نورمبورغ عام 1950 كما يلي:
·يسأل و يعاقب كل من يرتكب فعلا يعد جريمة في القانون الدولي.
·إن عدم معاقبة القانون الداخلي عن الفعل، الذي يكون جريمة في القانون الدولي لا يعفي مقترفيه من المسؤولية الدولية.
·عدم الاعتداد بحصانة الرئيس أو الحاكم في حالة ارتكابه جرائم دولية.
·عدم الاعتداد بالأمر الصادر من الحكومة أو الرئيس الأعلى للتهرب من المسؤولية.
·الحق لكل متهم في محاكمة عادلة.
·تعد الجرائم التالية جرائم دولية:
·الجرائم ضد السلام، ب- جرائم الحرب، جــــ- الجرائم ضد الإنسانية.
·الاشتراك في الجريمة الدولية يعد جريمة دولية.
أقرت المحكمة مبدأ شخصية العقوبة و المسؤولية في القانون الدولي، و طبقت المسؤولية الجنائية للفرد، و استبعدت المسؤولية الدولية الجنائية للدولة، كما أخذت بمبدأ سمو القانون الدولي على القانون الداخلي، و وجوب محاكمة و معاقبة كل من يرتكب جريمة دولية سواء جرائم ضد السلام، أو جرائم الحرب، أو الجرائم ضد الإنسانية دون استثناء، نظرا لخطورة و جسامة هذه الجرائم و سواء كان الفاعل أصليا أو شريكا.
اعتبرت مبادئ نورمبورغ أساسا لتقنين الكثير من القواعد الدولية مثل: إعداد مشروع تقنين الجرائم المخلة بسلم الإنسانية و أمنها الذي يشكل تقنينا لقانون عقوبات دولي، و إعداد اتفاقيات دولية لحقوق الإنسان التي تجرم أفعالا تضر بمصالح المجتمع الدولي، كاتفاقية إبادة الأجناس لعام 1948 الإتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري لعام 1973.
اعتبر قضاء نورمبورغ الفرد هو الذي ينتهك التزامات القانون الدولي بصفة مباشرة، و حمله المسؤولية الدولية الجنائية، و اعتبره شخصا دوليا، و لو لا ذلك لما تحمل هذه المسؤولية، و تمتع نتيجة لذلك بمركز دولي أمامه.
المطلب الثاني: المحكمة الجنائية الدولية لطوكيو.
تطبيقا لفكرة العدالة بدلا من الانتقام، و نظرا للجرائم الخطيرة التي ارتكبت في منطقة الشرق الأقصى، و التي ليس لها تحديد جغرافي، و بعدما وقعت اليابان على وثيقة الاستسلام في 2 سبتمبر 1945 و تم إخضاع سيادتها لقوات الحلفاء، لتقرر ما تراه مناسبا من إجراءات، تم بين 16 و 26 سبتمبر 1945 عقد مؤتمر وزراء خارجية دول الحلفاء في موسكو نتج عنه إعلان يحدد شروط الاستسلام، و بعد ذلك بـــ 4 أسابيع، أصدر القائد العام للحلفاء في اليابان إعلانا خاصا يإنشاء محكمة عسكرية دولية لمحاكمة مجرمي الحرب في منطقة الشرق الأقصى، و التي اعتمدت نظامها الداخلي، و بدأ المحاكمات في 29 أبريل 1946.
و لاستخلاص تطبيقات المحكمة للقانون الجنائي الدولي، سوف نتناول تحديد:
اختصاصات المحكمة في فرع أول، ثم تحمل المسؤولية الجنائية في فرع ثان و أخيرا تقييم أداء المحكمة.
الفرع الأول: اختصاصات المحكمة.
تتكون المحكمة الجنائية الدولية بطوكيو من 6 إلى 11 قاضيا من دول الحلفاء، يختارهم القائد العام للحلفاء في اليابان، و يعين رئيس المحكمة،و نائبا عاما و 11 مساعدا له، يقومون بمهمة التحقيق و الاتهام.
أنشأت المحكمة بقرار من القائد العام للحلفاء، عكس محكمة نورمبورغ التي أنشئت باتفاق لندن، كما أن تشكيلة المحكمة و طرق تعيين القضاة تتنافى و مبدأ حياد القضاء.
و تختص المحكمة إقليميا و زمنيا بمحاكمة مجرمي الحرب الذين ارتكبوا جرائم دولية التي ليس لها تحديد جغرافي في منطقة الشرق الأقصى دون المساس باختصاص المحاكم الوطنية على أساس مبدأ اللإقليمية. بالنسبة للجرائم المرتكبة في إقليم دولة معينة ، خلال الحرب العالمية الثانية، باعتبار محكمة طوكيو محكمة دولية مؤقتة مكانا و زمانا.
أما الاختصاص الموضوعي للمحمكة فيتمثل في محاكمة المسؤولين عن ارتكاب جرائم الدولية في صورها الثلاث، هي جرائم ضد السلام،و جرائم الحرب، و الجرائم ضد الإنسانية، كما نصت عليها المادة 5 من نظام المحكمة التي تقابل المادة 6 من لائحة نورمبورغ.
و لأول مرة تمت محاكمة الأفراد المسئولين عن ارتكاب جرائم دولية أمام محاكم جنائية دولية و التي تم تجسيدها في الأنظمة الأساسية لهذه المحاكم التي أرست مبادئ أساسية في القانون الدولي.
الفرع الثاني: تحمل الفرد المسؤولية الدولية الجنائية
رتب النظام الأساسي لمحكمة طوكيو المسؤولية الدولية الجنائية على عاتق الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم دولية، سواء بصفتهم الرسمية أو العادية في مادته 9.، تماشيا مع لائحة نورمبورغ. و فعلا أصدرت المحكمة أحكاما بإدانة المتهمين العسكريين و المدنيين في نوفمبر 1948.
لقد تم إعمال المسؤولية الدولية الجنائية للفرد من طرف المحكمة على الأفراد الرسمين عن الجرائم الدولية التي ارتكبوها، و قبل ذلك لم ينص قانون لاهاي (1899-1907) إلا على المسؤولية المدنية فقط، و ميثاق عصبة الأمم الذي رتب المسؤولية الجنائية الدولية على عاتق الأفراد العاديين فقط.
كما أن محكمة طوكيو اتبعت نفس منهج محكمة نورمبورغ بشأن ترتيب المسؤولية على كل من ارتكب جرائم دولية دون استثناء، و لم تمتد لا بمبدأ الحصانة، و لا بمبدأ أعمال السيادة،و لا بمبدأ الأمر الصادر من الرئيس الأعلى، لوضع حد لهذه الجرائم الفظيعة في حق الإنسانية،و سواء كان الفاعل أصليا أو شريكا.
و تعتبر الجريمة الدولية في صورها الثلاثة التي نصت عليها المادة 5 من لائحة طوكيو، أساسا للمسؤولية الدولية الجنائية للفرد و قدرته على ارتكابها، و على خرق هذه الالتزامات نتيجة للشخصية الدولية التي يتمتع بها أمام المحكمة.
الفرع الثالث: تقييم أداء محكمة طوكيو.
تعتبر المحكمة الجنائية الدولية بطوكيو امتدادا طبيعيا لمحكمة نورمبورغ، و سارت على هداها فيما يتعلق بالاختصاص أو الإجراءات أو نظام المسؤولية، كما أنها أقرت المبادئ القانونية التي أرستها محكمة نورمبورغ و طبقتها.
و المحكمة طبقت الجزاء الجنائي في القانون الدولي، و مبدأ شخصية العقوبة،و أقرت بقدرة الفرد سواء بصفته العادية أو الرسمية على خرق الالتزامات الدولية العرفية أو الاتفاقية، التي قد تصل إلى درجة ارتكاب جرائم دولية، سواء جرائم ضد السلام أو جرائم حرب، أو الجرائم ضد الإنسانية، التي شكلت أساس المسؤولية الدولية الجنائية للفرد،و وسعت من هذه المسؤولية لمعاقبة المجرمين و لوضع حد لانتهاك القانون الدولي، و حقوق الإنسان، و الإخلال بالسلم و الأمن الدوليين، فلم تعتد بمبدأ الحصانة أو مبدأ أعمال السيادة أو مبدأ الأمر الصادر من الرئيس الأعلى، المعتمدة في القوانين الداخلية.
و نخلص إلى أن محكمة طوكيو اعتبرت الفرد شخصا دوليا تماشيا مع موقف محكمة نورمبورغ، كأساس لارتكابه الجرائم الدولية، و تحميله المسؤولية الجنائية الدولية، بل كأساس حتى للمحاكمة أمام محكمة دولية، و بناء على ذلك اعترفت له بالمركز الدولي أمامها.
المبحث الثاني: المحكمة الجنائية الدولية (لكل من يوغسلافيا السابقة و رواندا) إثر الصراعات التي حدثت في يوغسلافيا السابقة منذ 1991، و ما نجم عنها من نزاعات دموية، خاصة بعد إعلان جمهورية البوسنة و الهرسك عن استقلالها في تاريخ 5 مارس 1992، بين الميليشيات الصربية و الإسلامية و الكرواتية.
و بعد المجازر الفظيعة التي ارتكبت في رواندا عام 1994 خاصة ما بين شهر أبريل و جويلية، و مقتل رئيس رواندا، أدى إلى اندلاع نزاع ، مسلح راح ضحيتها مئات الآلاف من الروانديين التوتوسي خاصة و من "الهوتو".
و أمام الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني و لحقوق الإنسان و حرياته الأساسية، و الجرائم الدولية التي ارتكبت في كل من يوغسلافيا السابقة و رواندا خاصة جرائم إبادة الأجناس، لم يقف المجتمع الدولي مكتوف الأيدي، بل أنشأ محاكم جنائية دولية لمحاكمة و معاقبة المسئولين عن ارتكاب هذه الجرائم، و نبحث في دراستنا كل محكمة على حدى، حيث سنتناول في المطلب أول المحكمة الجنائية الدولية بخصوص مجرمي حرب البوسنة و الهرسك، و في المطلب الثاني سنتناول المحكمة الجنائية الدولية برواندا.
المطلب الأول: المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة.
جعلت النزاعات المسلحة التي بدأت منذ عام 1991 في يوغسلافيا السابقة، و التي هددت السلم و الأمن الدوليين، مجلس الأمن للأمم المتحدة يستخدم صلاحيتها في إعادة السلم و الأمن في المنطقة. و بعدما اتخذ عدة إجراءات، رأى ضرورة إنشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة مجرمي حرب البوسنة و الهرسك عن الجرائم الدولية التي ارتكبوها. و سنبحث في محكمة يوغسلافيا السابقة بتقسيم هذا المطلب إلى الفروع التالية:
الفرع الأول تأسيس المحكمة،الفرع الثاني اختصاص المحكمة، الفرع الثالث تحمل الفرد المسؤولية الدولية الجنائية، الفرع الرابع الإجراءات المتعلقة بالمحاكمة، الفرع الخامس تقييم دور المحكمة.
الفرع الأول: تأسيس المحكمة.
اتخذ مجلس الأمن قراره رقم 808 بتاريخ 22 فيفري 1993 و القاضي، "بإنشاء محكمة دولية و مقاضاة الأشخاص المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي، و التي ارتكبت في إقليم يوغسلافيا السابقة منذ عام 1991"، و ذلك تطبيقا لتوصيات لجنة الخبراء التي أنشأها بقراره رقم 780 بتاريخ 16 أكتوبر 1992، و التي أكدت الجرائم الفظيعة التي ارتكبت في يوغسلافيا السابقة، و تنفيذا لهذا القرار، وافق مجلس الأمن على مشروع نظام المحمكة الجنائية الدولية الذي أعده الأمين العام من خلال قراره رقم 827 بتاريخ 25 ماي 1993.
أسس مجلس الأمن المحكمة الجنائية الدولية بناء على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، خاصة المواد 39-40، لأن كل ما يتعلق بحفظ السلم و الأمن الدوليين هو من اختصاصه، و هذه المواد التي تنص على إمكانية مجلس الأمن اتخاذ التدابير التي يراها مناسبة في حالة تهديد السلم، و الإخلال به من أجل تنفيذ قرارته ، و إن إنشاء المحكمة الدولية يعتبر من التدابير المناسبة لحفظ السلم و الأمن الدوليين و إعادته إلى نصابه، و إضفاء حماية جنائية دولية على حقوق الإنسان و حرياته الأساسية.
و إن تأسيس المحكمة الجنائية الدولية في يوغسلافيا السابقة يعتبر استمرارا لمحاكمات نورمبورغ و طوكيو، و تجسيدا للمحاكم الدولية التي نص القانون الدولي على إنشائها (المحكمة الجنائية الدولية التي تقضي بها اتفاقية منع إبادة الأجناس و المعاقبة عليها لعام 1948)، و تشكل نواة لتأسيس قضاء جنائي دولي دائم، الذي تأخر المجتمع الدولي في تأسيس هذه الآلية لحماية حقوق الإنسان و حرياته الأساسية، و المساهمة في حفظ السلم و الأمن الدوليين، بسبب شكليات و إجراءات و بعض التحفظات على إنشاء مثل هذا القضاء.
و اتخذ مجلس الأمن المبادرة بتأسيس محكمة جنائية دولية مؤقتة، بناء على اعتبار تعزيز احترام حقوق الإنسان و الحريات الأساسية للناس جميعا، و التشجيع على ذلك إطلاقا و بلا تمييز و لا تفرق، هو من مقاصد الأمم المتحدة و كذلك على أساس الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يخول مجلس الأمن اتخاذ كل التدابير اللازمة لحفظ السلم و الأمن الدوليين، خاصة و أن الوضع في يوغسلافيا السابقة يعتبر وضعا استثنائيا، بحيث أدت النزاعات المسلحة هناك إلى تهديد السلم و الأمن الدوليين، و ليس فقط في تلك المنطقة المسماة "البلقان" و ما نجم عن ذلك من خرق جسيم لحقوق الإنسان و للقانون الدولي الإنساني،و هذا أساس سليم لإنشاء قضاء دولي مؤقت.
كما أن الجمعية العامة بإمكانها إنشاء محكمة جنائية دولية التي ترى أن إنشاءها ضروري لحفظ السلم و احترام حقوق الإنسان. و هذا ما جاء في الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية C.I.J في 13 جويلية 1945 التي قالت بإمكانية إنشاء الجمعية العامة محكمة جنائية دولية على أساس المادة 22 من الميثاق .
الفرع الثاني: اختصاصات المحكمة.
نص النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في المواد من 1 إلى 9 لتحديد اختصاصاتها كما يلي:
أولا- الاختصاص الزماني "Rations Temporis":
بينت المادة الأولى من النظام الأساس للمحكمة اختصاصها الزماني التي نصت: "للمحكمة الدولية سلطة مقاضاة الأشخاص المسئولين عن لانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي المرتكبة في إقليم يوغسلافيا السابقة منذ عام 1991، وفقا لأحكام هذا النظام الأساسي"
تختص المحكمة بمحاكمة و معاقبة الأشخاص المسئولين عن انتهاك القانون الدولي الإنساني في يوغسلافيا السابقة منذ 1991، أي منذ بداية هذا العام حتى يمكن تحديد المتهمين و إسناد التهم إليهم.
ثانيا- الاختصاص المكاني "Ratione Loci".
إن المحكمة مختصة بمقاضاة المتهمين منذ بداية 1991 على الأفعال التي ارتكبوها في يوغسلافيا السابقة، و وضحت المادة 8 من النظام الأساسي للمحكمة المقصود بعبارة يوغسلافيا السابقة، "يشمل اختصاص المحكمة الدولية من حيث المكان إقليم جمهورية يوغسلافيا الاشتراكية الاتحادية السابقة، بما في ذلك مسطحها الأرضي و مجالها الجوي و مياهها الإقليمية".
يمتد الاختصاص المكاني للمحكمة إلى إقليم يوغسلافيا السابقة بما فيها الإقليم البري و مجالها الجوي و المياه الإقليمية.
ثالثا- الاختصاص الوضوعي "Ratione Materiae".
نوضح فيه اختصاص المحكمة بالنسبة للمحاكم الوطنية، و كذلك بالنسبة للمحاكمة عن الجرائم المرتكبة.
نصت المادة 9 من النظام الأساسي للمحكمة في فقرتها الأولى بأن للمحكمة الدولية و المحاكم الوطنية اختصاصا مشتركا في محاكمة المسئولين عن الجرائم المرتكبة في يوغسلافيا السابقة منذ عام 1991، و بينت الفقرة الثانية أن للمحكمة الجنائية الدولية أسبقية و أولوية في الاختصاص، بل الفقرة الثالثة أجازت للمحكمة الجنائية الدولية في أي مرحلة من مراحل الدعوى أن تطلب من المحاكم الوطنية رسميا التنازل عن اختصاصها لها.
نستنتج أن المحكمة الجنائية الدولية هي المختصة أصلا ،و لها الأسبقية في محاكمة المتهمين ،و هذا تدعيما للقضاء الدولي و القانون الدولي ،بالنسبة للمحاكم الوطنية و السيادة الوطنية ،و هذا بخلاف الاختصاص الموضوعي للمحكمة نورمبورغ ،و طوكيو ،الذي يأتي بعد إختصاص المحاكم الوطنية على أساس عدم تحديد الجرائم الدولية المرتكبة ،بخلاف تحديدها بالنسبة إلى المحكمة الدولية في يوغسلافبا السابقة .
أما اختصاص المحكمة بالنسبة للجرائم الدولية المرتكبة حسب نظامها الأساسي فتتمثل في:
أولا- جرائم الحرب:
·الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف لعام 1949.
و عددت المادة 2 من النظام الأساسي للمحكمة هذه الجرائم حصرا.
·انتهاكات قوانين و أعراف الحرب.
و عددت المادة الثالثة من النظام الأساسي هذه الجرائم دون حصر .
ثانيا: إبادة الأجناس:
نصت عليها المادة 4 من النظام الأساسي للمحكمة و التي عرفتها حسبما تقضي بها اتفاقية منع إبادة الأجناس و المعاقبة عليها لعام 1948.
ثالثا – الجرائم المناهضة للإنسانية:
التي نصت عليها المادة 5 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، تختص بمحاكمة و معاقبة الأشخاص المسئولين عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، كما ورد في قرار مجلس الأمن رقم 808 (1993)، ثم جاء نظامها الأساسي الذي لأصدره مجلس الأمن بقراره رقم 827 (1993)، الذي حدد الجرائم الدولية التي تختص بها المحكمة.
النزاع المسلح في يوغسلافيا السابقة يفسر الجرائم الدولية المرتكبة بالمخالفة للقانون الدولي الإنساني، و الذي يتكون من (قانون لاهاي + قانون جنيف + البروتوكولين الأول و الثاني لعام 1977)، أما النظام الأساسي للمحكمة نص على الانتهاكات الجسيمة لقانون جنيف لعام 1949 المتمثلة في القتل العمد، التعذيب، تدمير الممتلكات و مصادرتها دون مبرر أو ضرورة عسكرية، الإكراه على الخدمة في قوات دولة معادية، الحرمان من محاكمة عادلة النفي أو الحبس دون مبرر قانوني.
و نص على قانون لاهاي (1907.1899) دون النص على البروتوكول الأول و الثاني الملحقين بقانون جنيف لعام 1949، علما أن المادة 85 من البروتوكول الأول عددت الانتهاكات الجسيمة كما سوف نرى ذلك لاحقا و وسعتها إضافة لتلك المحددة في قانون جنيف لعام 1949.
تضمن النظام الأساسي على جرائم إبادة الأجناس، و الجرائم المناهضة للإنسانية، و التي لا ترتكب بالمخالفة للقانون الدولي الإنساني، وإنما بالمخالفة لاتفاقية إبادة الأجناس و للنظام الأساسي للمحكمة الذي يعتبر جزءا من القانون الدولي الجنائي.
النظام الأساسي للمحكمة في تعداده للجرائم المناهضة للإنسانية لم يذكر الإبعاد الذي أشارت إليه لائحة نورمبورغ، و لكنه جرم النفي، و السجن و التعذيب،و الاغتصاب، و هو ما لا نجده في لائحة نورمبورغ و طوكيو، كذلك لم يشر نظام المحكمة إلى الجرائم ضد السلام،و هو ما ضيق من اختصاصها.و تجنبا لاتخاذ مواقف سياسية انصبت المحاكمات على الأفراد حتى و لو ارتكبوا الجرائم الدولية باسم الدولة و لحسابها، كذلك عدم نص النظام الأساسي للمحكمة على أحد البروتوكولين الملحقين بقانون جنيف لعام 1949، يرجع في اعتقادنا إلى تجنب تكييف النزاع هل هو دولي أم داخلي في يوغسلافيا السابقة؟ و بالتالي لأيهما من البروتوكولين يطبق، رغم النزاع له أثار دولية و هدد السلم و الأمن الدوليين.
تضمن النظام الأساسي للمحكمة مفهوما جديدا للانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، بحيث نص على الانتهاكات الجسيمة لقانون جنيف عام 1949، دون النص على الانتهاكات الجسيمة في البروتوكول الأول لعام 1977 الملحق بقانون جنيف لعام 1949 في المادة 85، و نص على هذه الانتهاكات خارج القانون الدولي الإنساني لكي تمتد إلى القانون الدولي الجنائي في قواعده الاتفاقية و العرفية، سواء في الانتهاكات الجسيمة لاتفاقية إبادة الأجناس عام 1948، أو في ارتكاب الجرائم المناهضة للإنسانية.
الفرع الثالث: تحمل الفرد المؤولية الدولية الجنائية.
نتناولها من حيث تحمل للمسؤولية، و من حيث أساس هذه المسؤولية.
أولا – تحمل الفرد المسؤولية:
نصت المادة 6 من النظام الأساسي للمحكمة على ما يلي: "يكون للمحكمة الدولية اختصاص على الأشخاص الطبيعيين بموجب هذا النظام الأساسي".و نصت كذلك الفقرة من المادة 7 على ما يلي: "كل شخص خطط لجريمة من الجرائم المشار إليها في المادة 2 إلى 5 من هذا النظام الأساسي أو حرض عليها أو ارتكبها أو ساعد و شجع بأي سبيل آخر على التخطيط أو الإعداد لها أو تنفيذها، تقع عليه شخصيا المسؤولية عن هذه الجريمة".
لقد أكد الفقه الدولي المسؤولية الجنائية للأفراد عن الأفعال التي يقومون بها باسم دولتهم و لحسابها.
رتبت المحكمة الجنائية الدولية المسؤولية الجنائية على الأفراد عن الجرائم الدولية التي ارتكبوها في يوغسلافيا السابقة منذ 1991، و أكد الفقه الدولي هذه المسؤولية حتى و لو قام بها الأفراد باسم دولتهم و لحسابها، و استبعاد المسؤولية الجنائية للدولة كشخص معنوي، و هذا ما سار عليه القضاء و الفقه الدوليين منذ قضاء نورمبورغ و طوكيو، و القانون الدولي في تأكيد هذه المسؤولية في اتفاقية فرساي 1919، و في اتفاقية لندن لعام 1945، و في اتفاقية إبادة الأجناس لعام 1948 في المادة 4 منها ،و كذلك في مشروع تقنين الجرائم ضد السلام و أمن الانسانية 1954، المادة 11، و في الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري 1973، المادة 3. و كرست المواد 86 و 91 من البروتوكول الأول لعام 1977 لاتفاقيات جنيف لعام 1949 هذا المبدأ.
تقع المسؤولية الدولية الجنائية على عاتق الفرد سواء بصفته الرسمية أو العادية، و سواء كان متهما أصليا، أو صورة من صور ألاشتراك أو بالتخطيط أو التحريض أو المساعدة أو التشجيع أو الإعداد أو التنفيذ في ارتكاب الجريمة الدولية، دون الاعتداد بمبدأ الحصانة أو مبدأ أعمال السيادة، أو مبدأ الأمر الصادر من الرئيس الأعلى و إن كان هذا المبدأ الاخير يمكن أن يخفف المسؤولية دون الإعفاء منها، و هذا ما سار عليه قضاء نورمبورغ و طوكيو.
تأكدت المسؤولية الدولية الجنائية للفرد و الفقه الدوليين، و في القانون بفرعيه القانون الدولي الجنائي، و القانون الدولي الإنساني.
ثانيا- الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني أساس مسؤولية الفرد:
جاء في قرار مجلس الأمن رقم 808 (1993) الذي أسس المحكمة الجنائية الدولية لمقاضاة الأشخاص المسئولين عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني.
و الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، محددة بصورة منفردة في اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، و المادة 85 من البروتوكول الأول لعام 1977 التي وسعت قائمة الانتهاكات الجسيمة كما يلي:
·الانتهاكات الجسيمة في اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949: نصت عليها المواد 50 من الاتفاقية الأولى، 51 من التفاقية الثانية، 130 من الاتفاقية الثالثة، 147 من الاتفاقية الرابعة.
و التي تشمل:
·الانتهاكات ضد الأشخاص الذين تحميهم الاتفاقيات الأربع من قتل و تعذيب.
·الانتهاكات ضد المرضى و الجرحى و الغرقى.
·الانتهاكات ضد الأسرى.
·الانتهاكات ضد المدنيين.
·الانتهاكات الجسيمة المادة 85 من البروتوكول الأول لعام 1977.
·الهجومات ضد السكان المدنيين – الهجومات ضد الأموال المدنية.
·الهجومات ضد المنشآت المدنية – الهجومات ضد المناطق المنزوعة من السلاح.
·ممارسات التمييز العنصري – الاستخدام المغشوش لعلامات الحماية
· نقل دولة احتلال لقسم من سكانها المدنيين إلى أرض أخرى.
·بعض الهجومات الموجهة ضد المنشآت الثقافية و أماكن العبادة.
·الإبطاء الغير المبرر في إعادة الأسرى الحرب أو المدنيين إلى بلادهم.
·حرمان شخص محمي من حقه في محاكمة قانونية و غير متحيزة.
و توصف كافة الانتهاكات الجسيمة، بأنها جرائم حرب تلتزم الدول الأطراف بردعها أو تسليم المتهمين، و انشاء المحمكة الجنائية الدولية تعتبر الآليى الأمثل لردع هذه الانتهاكات، و التي تفنن صرب البوسنة و الهرسك، في ارتكابها، خاصة ضد مسلمي هذه الجمهورية.
و إننا نعتقد أن انتهاكات القانون الدولي الإنساني كلها جسيمة، ردعا لكل اعتداء و حماية لحقوق الإنسان و حرياته الأساسية.
و نص البروتوكول الأول لعام 1977 الملحق بقانون جنيف 1949 في الماد 89: " على أنه في حالة ارتكاب مخالفات جسيمة، فإن الدول بإمكانها التعاون مع منظمة الأمم المتحدة في هذا المجال".
أنشأ هذا البروتوكول نظام الالتزام الدولي للحد من الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني بالمحاكمة أو التسليم، و التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، التي لها الأسبقية في محاكمة المسئولين عن هذه الانتهاكات، كما أن نظام الالتزام الدولي ينشأ وجوبا لتنفيذ قرارات مجلس الأمن الذي أسس المحكمة، و التي تأتي بنتائج بقدر تنفيذ هذا الالتزام و تعاون الدول و الأمم المتحدة معها حتى لا يبقى أي مسؤول عن ارتكاب هذه الانتهاكات و هذه الجرائم الدولية دون محاكمة، و بالتالي يعتبر مبدأ "السلطة القضائية، الجنائية العامة". الضامن الفعلي لاحترام القانون الدولي الإنساني.
تطور أساس مسؤولية الفرد في القانون الدولي من الجريمة الدولية في صورها الثلاثة و هي جرائم ضد السلام، جرائم الحرب، و الجرائم ضد الإنسانية، إلى المسؤولية على أساس الجريمة الأحادية في اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1973، إلى الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني كأساس جديد المسؤولية الدولية الجنائية للفرد.
الفرع الرابع: الاجراءات المتعلقة بالمحاكمة.
نتناول في هذا الفرع التحقيقات و إعداد عريضة التهام، ثم إجراءات المحاكمة و الاحكام التي تصدرها، و أخيرا تنفيذ أحكام المحكمة على التوالي:
أولا- التحقيقات و إعداد عريضة الاتهام:
تضمن النظام الأساسي للمحكمة أصول المحاكمة، بحيث نصت المادة 18 الفقرة الأولى على قيام المدعي العام بإجراء التحقيقات معتمدا على المعلومات التي تصل إليه من مختلف الحكومات و الأمم المتحدة و المنظمات الدولية الحكومية و المنظمات غير الحكومية les ONG، و له سلطة استجواب المشتبه فيهم و الضحايا و الشهود، و جمع الأدلة، و للمتهم الاسفادة من الضمانات القضائية، و للمدعي العام وحده تقرير ما إذا كانت الوقائع تشكل أساسا كافيا للاتهام،و في حالة جمع الأدلة الكافية ،يقوم بإعداد عريضة الاتهام تتضمن الوقائع و الجرائم التي وجهت للمتهم و تحال إلى قاض من قضاة دائرة المحكمة.
يعتبر المدعي العام سلطة اتهام و ممثل النيابة العامة للمحكمة، و يقوم بالاستجوابات الأولية و التحقيقات اللازمة و إعداد عريضة الاتهام و تقديمها إلى المحكمة.
ثانيا- إجراءات المحاكمة و الأحكام التي تصدرها:
تتكون المحكمة من دائرتين، في كل دائرة 3 قضاة و دائرة للاستئناف تتكون من 5 قضاة. و بينت المادة 20 من النظام الأساسي، أن المحاكمة تكون عادلة و سريعة، مع احترام حقوق المتهم، و متى وجهت التهمة للمتهمين يجب احتجازهم، و تحدد دائرة المحكمة موعدا للمحاكمة، و تقوم باستجوابهم، بعد قراءة عريضة الاتهام، و الاجابة على التهم، و تكون جلسات المحاكمة علنية، ما لم تقرر المحكمة خلاف ذلك.
و تنتهي إجرءات المحاكمة بإصدار حكم، و استبعد نظام المحكمة عقوبة الإعدام، رغم وجودها في قوانين يوغسلافيا السابقة، بخلاف محاكمات نورمبورغ و طوكيو التي أصدرت أحكاما بالإعدام، و تقتصر العقوبة على السجن وفقا لما تحدده المحكمة، على أساس ما هو معمول به في قوانين يوغسلافيا السابقة، كما أوضحت ذلك المادة 24 الفقرة الأولى من النظام الأساسي للمحكمة .
و لا يحق محاكمة المتهمين غيابيا كما بينت المادة 21 الفقرة 4 من النظام الأساسي بخلاف ما كان معمولا به في محاكمات نورمبورغ و طوكيو.
بالفعل أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أول حكم لها في 29 نوفمبر 1996 في حق أحد جنود الصرب بــــ 10 سنوات سجنا عن الجرائم الدولية التي ارتكبها و هي عقوبة غير متناسبة، و يبقى الأمل في محاكمة كبار مجرمي الصرب معقودا بالتعاون مع الدول، و الأمم المتحدة ممثلة خاصة في الحلف الأطلسي الساهر على احترام المساءل الأمنية وفقا لاتفاق دايتن للسلام.
و يحق الطعن بالاستئناف في أحكام المحكمة أمام دائرة الاستئناف لكل من المدعي العام و المتهمين، و ذلك إذا وقع خطأ في القانون أو في الوقائع أو إذا ظهرت حقيقة جديدة يمكن أن تكون عاملا حاسما في التوصل إلى قرار حسب المادة 25 من النظام الأساسي للمحكمة.
تستجيب المحكمة الجنائية الدولية لمبدأ حياد القضاء، بحيث يتم انتخاب القضاة من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة، و طبقت المحكمة اصول الاجراءات الواردة في نظامها، مع احترامها ضمانات المتهم و إعطائه حق الدفاع و حق الطعن بالاستئناف.
ثالثا : تنفيذ احكام المحكمة.تنفذ احكام المحكمة الجنائية الدولية في دولة تعينها من قائمة الدول التي ابدت استعدادها لقبول الأشخاص المدانين، و يكون الاحتجاز في السجن وفق قانون الدولة المستقبلة تحت إشراف المحكمة حسب المادة 27 من النظام الأساسي.
و يمكن للمحكمة أن تصدر عفوا أو تخفف العقوبة على أساس العدالة و مبادئ القانون العامة وفق المادة 28 من النظام الأساسي.
إضافة لدور المحكمة في إصدار أحكام بالإدانة فإنها تشرف على تنفيذ هذه الأحكام بالتعاون مع الأمم المتحدة، و مع الدول تطبيقا للقانون الدولي، و إن إمكانية المحكمة في إصدار عفو أو تخفيف العقوبة يتنافى مع خصائص الجريمة الدولية.
الفرع الخامس: تقييم دور المحكمة.
يعد تأسيس مجلس الأمن للأمم المتحدة محكمة جنائية دولية مؤقتة، و التي حملت الفرد بصفته الرسمية أو العادية، و سواء كان فاعلا أصليا أو شريكا بأية صورة كانت، بالتخطيط أو المساعدة أو التشجيع أو التنفيذ ،دون الإعتداد بمبدأ الحصانة ،أو مبدأ أعمال السيادة ،أو مبدأ الأمر الصادر من الرئيس الأعلى ،المسؤولية الدولية الجنائية،هو تكريس لمبدأ المسؤولية الجنائية الدولية للأفراد.
و تعتبر الانتهاكات الجسيمة للقانون الدوليي الإنساني أساسا جديدا للمسؤولية الدولية للفرد، و قدرته على ارتكاب الجرائم الدولية سواء جرائم حرب، أو جرائم الإبادة، أو الجرائم المناهضة للإنسانية، و بالتالي تهديد السلم و الأمن الدوليين، و خرق الالتزامات الدولية، و الاعتداء على حقوق الإنسان و حرياته الأساسية المحمية دوليا.
مثول الفرد كمدعى عليه أمام المحكمة، و مشاركته في إجراءات المحاكمة، و حــــــقه في الدفاع، و في الطعن بالاستئناف في أحكام المحكمة، يؤكد و يكرس الشخصية الدولية للفرد و تمتعه بمركز دولي أمام المحكمة.
و هذه الشخصية الدولية للفرد تتأكد باستمرار في إطار القانون الدولي الجنائي و القانون الدولي الإنساني، منذ محاكمات نورمبورغ و طوكيو إلى يومنا هذا، و بالتالي تمتع الفرد بالشخصية القانونية الفردية الدولية.
المطلب الثاني: المحكمة الجنائية الدولية لرواندا.
أدى النزاع المسلح الذي نشب في رواندا، في الفترة ما بين شهر أبريل و جويلية 1994 بعد مقتل رئيسها، و ما نجم عنه من الجرائم الدولية التي ارتكبت، خاصة جرائم الإبادة الجماعية في حق قبائل التوتسي، إلى تدخل هيئة الأمم المتحدة في رواندا عسكريا، و إنسانيا، و قضائيا الذي يتمثل في تأسيس محكمة جنائية دولية على منوال المحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة، لمحاكمة المسئولين عن هذه الجرائم، و لوضع حد و قمع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان.
و سوف نركز هذه الدراسة على بحث التطبيق المباشر لقواعد القانون الدولي للمحكمة، و من أجل ذلك نقسم هذا المطلب إلى الفروع التالية:
الفرع الأول تأسيس المحكمة ،الفرع الثاني اختصاصات المحكمة، الفرع الثالث تحمل الفرد المسؤولية الدولية الجنائية ، الفرع الرابع الإجراءات أمام المحاكمة، الفرع الخامس تقييم أداء المحكمة.
الفرع الأول : تأسيس المحكمة.
تدخل المجتمع الدولي لوضع حد للمجازر التي ارتكبت في رواندا عن طريق مجلس الأمن للأمم المتحدة، الذي اتخذ قرارا يحمل رقم 955 ( 1994) بتاريخ 8 نوفمبر 1994، و الذي أسس المحكمة و اعتمد نظامها، بناء على توصيات لجنة الخبراء التي أسسها بقراره 935 (1994) في 1 جويلية 1994، للتحقق في الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني في رواندا منذ 6 أبريل، و تقديم تقرير بذلك إلى الأمين العام للأمم المتحدة، قبل 30 نوفمبر 1994، و التي أكدت الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، خاصة المادة 3 المشتركة لقانون جنيف لعام 1949، و أحكام كثيرة من البروتوكول الثاني لعام 1977 الإضافي لاتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، المتعلق بحماية ضحايا النزاعات المسلحة غير الدولية، و التي أكدت كذلك ارتكاب الجرائم المناهضة للإنسانية، و جرائم إبادة الأجناس، كما اقترحت توسيع اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة، لمحاكمة المسئولين عن ارتكاب هذه الجرائم، و معاقبتهم لأسباب عملية و قصد توحيد الاجتهاد القضائي.
و فعلا أسس مجلس الأمن المحكمة الجنائية الدولية برواندا و اعتبرها محكمة مؤقتة على منوال المحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة في أساسها و في نظامها، و دورها، وأهدافها، و اعتبرها كذلك محكمة مستقلة و تربطها علاقة وظيفية مع محكمة يوغسلافيا السابقة، تتمثل في امتداد اختصاص النيابة العامة و غرفة الاستئناف لمحكمة يوغسلافيا السابقة، إلى محكمة رواندا لمنحها أكبر قدر ممكن من الخبرة و الفاعلية.
الفرع الثاني: اختصاصات المحكمة.
حدد النظام الأساسي للمحكمة اختصاصها باعتبارها محكمة مؤقتة اعتبارا من المادة الأولى، كما يلي:
أولا- الاختصاص الزماني Ratione Temoris.
أوضحت المادة الأولى من النظام الأساسي اختصاص المحكمة الزماني، الذي يبدأ من 1 جانفي 1994 إلى غاية 31 ديسمبر 1994، و هو ما أثبته لجنة الخبراء السابقة حول الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني التي حدثت في هذه الفترة، رغم أن حكومة رواندا اقترحت بداية الحرب الأهلية في شهر أكتوبر 1990، بداية الاختصاص الزمني للمحكمة.
ثانيا- الاختصاص المكاني Ratione Loci .
تضمنت المادة الأولى كذلك من النظام الأساسي للمحكمة اختصاصها بمحاكمة الروانديين عن الجرائم التي ارتكبوها في رواندا أو في الدول المجاورة لها، نظرا لطبيعة الحرب الأهلية، و جرائم الإبادة التي ارتكبت، و ملاحقة المسؤولين عن هذه الجرائم حتى خارج إقليم الدولة، و هذا من مميزات القضاء الدولي.
ثالثا- الاختصاص الموضوعي Ratione Materiae..
بينت المادة 3 من النظام الأساسي اختصاص المحكمة بمتابعة كل شخص مسؤول عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني المرتكبة في رواندا، و التي تضم جرائم الإبادة الجماعية و انتهاكات المادة 3 المشتركة لاتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، و انتهاكات البروتوكول الثاني الإضافي لعام 1977 لهذه الاتفاقيات و الجرائم المناهضة للإنسانية.
·جرائم الإبادة الجماعية:
و هي جرائم نص عليها النظام الأساسي للمحكمة في المادة 2 و هي نفسها المادة 4 من النظام االأساسي لمحكمة يوغسلافيا السابقة، تتضمن الأفعال التي نصت عليها المادة 2 من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، أو الأفعال التي تؤدي أو تساهم في ارتكاب هذه الجريمة التي نصت عليها المادة 3 من الاتفاقية نفسها.
·الجرائم المناهضة للإنسانية:
و التي نص عليها النظام الأساسي في مادته الثالثة و هي ذاتها المادة 5 من نظام محكمة يوغسلافيا السابقة، و التي تتضمن القتل، الإبادة ، الاستراق، النفي، السجن، التعذيب، الاغتصاب، الاضطهاد لأسباب سياسية و عرقية و دينية، وسائر الأفعال غير الإنسانية.
·انتهاكات المادة 3 المشتركة لاتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 و البروتوكول اللإضافي الثاني لعام 1977 الملحق بهذه الاتفاقيات:
و التي تضمنتها المادة 4 من النظام الأساسي، و عددت هذه الانتهاكات في القتل بكل أشكاله، التهديم، المعاملة غير الإنسانية، التعذيب، العقاب الجماعي، أخذ الرهائن، أعمال الإرهاب، المساس بكرامة الشخص، الاغتصاب، الإكراه على ممارسة الدعارة، السرقة، إصدار أحكام و تنفيذها دون محاكمة عادلة، و التهديد بارتكاب أفعال إجرامية.
تختص المحكمة الجنائية الدولية برواندا بمحاكمة و معاقبة الأشخاص المسؤولين عن النتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، و التي حدد نظامها الأساسي هذه الانتهاكات، المتمثلة في جرائم الإبادة الجماعية، و الجرائم المناهضة للإنسانية، و انتهاكات قانون جنيف لعام 1949 و البروتوكول الثاني اللإضافي لعام 1977 الملحق به.
صحيح أن جرائم إبادة الأجناس ترتكب أثناء النزاعات المسلحة، و كذلك أثناء السلم إلا أنها لا ترتكب بالمخالفة للقانون الدولي الإنساني، و إنما ترتكب بالمخالفة للقانون الدولي الجنائي، و الحكم نفسه ينصب على الجرائم المناهضة للإنسانية، و التي ترتكب أثناء النزاعات المسلحة، و نفس الجرائم الدولية نص عليها نظام محكمة يوغسلافيا السابقة.
كذلك نص النظام الأساسي للمحكمة الدولية برواندا على انتهاكات قانون جنيف لعام 1949 و البروتوكول الإضافي الثاني لعام 1977، و دون النص على انتهاكات قانون لاهاي لعام (1899 و 1907)،و هذا يبرره النزاع المسلح غير الدولي برواندا، و الذي حددت مفهومه المادة الأولى من البروتوكول السابق المتعلق بحماية ضحايا النزاعات المسلحة غير الدولية.
تضمن النظام الأساسي للمحكمة الدولية برواندا مفهوما خاصا للانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، اقتضاه طبيعة النزاع و الجرائم الدولية المرتكبة في رواندا، و نعتقد أن محكمة رواندا و كذلك محكمة يوغسلافيا السابقة تختص بالنظر في النتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، و القانون الدولي الجنائي معا، نظرا لاختلاف طبيعة كل قانون.
تتمتع المحكمة باختصاص حق الأسبقية بالنسبة للمحاكم الوطنية، و تستطيع في أية مرحلة إجرائية أن تطلب من هذه الأخيرة التنازل لها للمحاكمة، بل لها حق متابعة الأشخاص و لو تمت محاكمتهم أمام المحاكم الوطنية، إذا تبين لها أن المحاكمة تمت على أساس جريمة عادية، أو المحاكمة لم تكن كلية أو مستقلة و هو الامتياز ذاته الذي منح للمحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة.
الفرع الثالث: تحمل الفرد المسؤولية الدولية الجنائية.
أكد النظام الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية برواندا المتعمد بقرار مجلس الأمن رقم 955 (1994) بتاريخ 8 نوفمبر 1994، المسؤولية الدولية الجنائية للفرد، و الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم دولية يتحملون فرديا المسؤولية الجنائية الدولية ، و هذا المبدأ ترسخ في القانون الدولي منذ محاكمات نورمبورغ لعام 1945، و الذي قننه مشروع تقنين الجرائم ضد السلام و أمن الإنسانية في المادة 11، و الذي تشرف الأمم المتحدة بواسطة لجنة القانون الدولي على إعداده في تقريرها الثامن لعام 1994.
و تقع المسؤولية الجنائية على عاتق كل الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم إبادة الأجناس، أو الانتهاكات الجسيمة الأخرى للقانون الدولي الإنساني، في إقليم رواندا، و كذلك المواطنين الروانديين الذين ارتكبوا هذه الجرائم على إقليم الدول المجاورة ابتداءا من 01 جانفي إلى غاية 31 يسمبر 1994
إذن يتحمل المسؤولية الجنائية الدولية الفرد العادي أو الرسمي على المجازر التي ارتكبت في رواندا، وسواء كان الفاعل متهما أصليا، أو بأية صورة من صور الاشتراك، أو التخطيط لهذه الجرائم، دون الاعتداد بالأمر الصادر من الرئيس الأعلى كسبب للإعفاء من المسؤولية، و إن كان يمكن للمتهم الاستفادة من تخفيف العقوبة حسبما جرى عليه عمل القضاء الدولي في هذا المجال و استقر عليه.
و يعاد أساس المسؤولية الدولية الجنائية للفرد، و الذي يتمثل في الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، و هو أساس ذاته في مسؤولية الفرد أمام المحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة، و هو أساس ذاته في مسؤولية الفرد أمام المحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة، إلا أن مضمونه يختلف، بحيث تشمل كل النتهاكات الجسيمة أساس مسؤولية الفرد أمام المحكمة الدولية برواندا، جرائم إبادة الأجناس، و الجرائم المناهضة للإنسانية، وانتهاكات قانون جنيف لعام 1949 خاصة المادة 3 المشتركة بين الاتفاقيات الأربع و كذلك البروتوكول الإضافي الثاني لعام 1977 لقانون جنيف لعام 1949 كما سبق.
و الملاحظ أن أساس المسؤولية الدولية للفرد أمام كل من المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة و رواندا، يتمثل في الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، و الذي نضيف إليه انتهاكات القانون الدولي الجنائي ليشكل انتهاك القانونين أساس للمسؤولية الدولية للفرد، و حتى لا يفلت أي مرتكب للجريمة الدولية من المحاكمة و العقاب، و إعطاء أكبر قدر من الفاعلية و الحماية الجنائية الدولية لحقوق الإنسان و حرياته الأساسية، و تعزيز الاستقرار و المحافظة على السلم و الأمن الدوليين.
الفرع الرابع: الاحراءات أمام المحكمة. إجراءات محاكمة الأفراد أمام المحكمة الدولية برواندا نص عليها نظامها الأساسي، الذي اعتمده مجلس الأمن بقراره 955 (1994) في 8 نوفمبر 1994، و الذي استكمل بنظام الاجراءات و الاثبات الذي اعتمدته المحكمة في 29 جوان 1995 في الدورة الأولى 26-30 جوان 1995 بلاهاي، هولندا.
و بينت المواد من 17 إلى 28 من النظام الأساسي لمحكمة رواندا التي أعادت كلية المواد 18 إلى 29 من نظام المحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة، و هذه الأحكام الإجرائية، تتعلق بالحصول على المعلومات و توجيه الاتهام من طرف المدعي العام، الذي امتد اختصاصه من محكمة يوغسلافيا السابقة إلى محكمة رواندا، في المادة 17، و التحقيق و عريضة الاتهام، المادة 18، افتتاح و سير إجراءات المحاكمة، المادة 19، حول حقوق المتهم، المادة 20، حماية الضحايا و الشهود، المادة 21، في الأحكام المادة 22، في القرارات، المادة 23، في إجراءات الاستئناف و إعادة النظر في الأحكام ، المواد 25،24، في تنفيذ العقوبات، المادة 26، في العفو و تخفيف العقوبة، المادة 27، و في التعاون في الميدان القضائي، المادة 28.
إذا تبين للمدعي العام أن هناك أفعالا تشكل جريمة حسب المواد 2 إلى 4 من نظام المحكمة، يبدأ في المتابعة و جمع المعلومات و التحريات، عندما يرى أن الأفعال كافية و تشكل جريمة، يعد عريضة الاتهام و يحيلها إلى إحدى غرف المحكمة من الدرجة الأولى،و التي لها أن تقبل أو ترفض الإتهام، و في حالة تأكيد الاتهام، يصدر قاضي المحكمة أمرا بالتوقيف، أو أمرا بالإحضار، أو أمرا بالحبس، أو أي أمر يراه ضروريا لحسن سير المحاكمة، و حقوق الدفاع فيها المساعدة القضائية، و المحكمة تعقد جلستها علنيا، إلا إذا رأت غير ذلك، و تنطق بالأحكام في جلسة علنية.
و الأشخاص المحكوم عليهم يمكنهم الاستئناف أو طلب إعادة نظر الأحكام حسب شروط نظام المحكمة.
و المحكمة لا تحكم إلا بعقوبة السجن، و التي كانت نقطة خلاف بين الأمم المتحدة و حكومة رواندا، التي طلبت تطبيق الحكم بالإعدام حسبما نص عليه قانونها الداخلي، خاصة و أنها لم تصادق على اتفاقية إلغاء عقوبة الإعدام، و نص نظام المحكمة على السجن المؤبد كأقصى عقوبة، و هو قانونها الذي تطبقه و يكرس أولوية القانون الدولي،كما اعتبر مكان قضاء العقوبة مشكل أخر، مما عطل هذه المحاكمات.
تأسست المحكمة من أجل إجراء محاكمة عادلة و كاملة و لم تترك الأمم المتحدة لحكومة رواندا مجالا للمحاكمات الجزئية، و التي تعتبر سابقة في التدخل الدولي قضائيا من أجل حماية حقوق الإنسان حتى في النزاعات المسلحة غير الدولية.
الفرع الخامس: تقييم أداء محكمة رواندا.
أكدت المحكمة الجنائية الدولية برواندا من جديد المسؤولية الدولية الجنائية للفرد العادي أو الرسمي،و قيام جماعات من الهوتو بالتخطيط و التنفيذ لإبادة جماعات من التوستي خاصة، فالمسؤولين عن ارتكاب الجرائم في رواندا عام 1994 يحاكمون أمام محكمة دولية، و رغم أن النزاع فر روندا يعتبر نزاعا مسلحا غير دولي، و تعتبر الجرائم الفظيعة التي ارتكبت بالمخالفة للقانون الدولي الإنساني خاصة، المتمثلة في ارتكاب جرائم إبادة الأجناس، و الجرائم المناهضة للإنسانية، و انتهاكات قانون جنيف لعام 1949، و البروتوكول الإضافي الثاني لعام 1977 الملحق بهذا القانون، فإن المتهمين ارتكبوا جرائم دولية و يتحملون مسؤولية جنائية دولية.
يمكن القول أنه حتى في النزاعات المسلحة غير الدولية، يستطيع الفرد ارتكاب جرائم دولية،و قدرته على خرق الالتزامات الدولية، و انتهاكات القانون الدولي الإنساني، و القانون الدولي الجنائي، و حتى تهديد السلم و الأمن الدوليين، مما جعل المجتمع الدولي يتدخل لحماية حقوق الإنسان و حرياته الأساسية، عن طريق مجلس الأمن بتأسيس محكمة رواندا الدولية لمحاكمة الأفراد المسؤولين عن هذه الانتهاكات، و يشارك الأفراد المتهمين في الاجراءات أمام المحكمة، و حقهم في الدفاع عن هذه الانتهاكات، و يشارك الأفراد المتهمين في الاجراءات أمام المحكمة،و حقهم في الدفاع مضمون، و في الطعن في أحكام المحكمة، مما يكرس شخصية الفرد الدولية على أساس معيار تحمل المسؤولية الدولية و مدى تلازم المفهومين وعدم الفصل بينهما، و ينتج عنه المركز الدولي للفرد أمام القضاء الدولي الذي يعزز الحماية الدولية لحقوق الإنسان.
المبحث لثالث: المحكمة الجنائية الدولية الدائمة محكمة روما)
تعتبر أول هيئة قضائية جنائية دولية دائمة، تأسست من أجل التطبيق المباشر للقانون الجنائي الدولي، و وسيلة لإنقاذ القانون الدولي الإنساني و ردع الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، و كانت من أولى اهتمامات هيئة الأمم المتحدة منذ محاكمات نورمبورغ و طوكيو الشهيرة عام 1945، 1946، و بعد ما أصبحت المبادئ التي كرستها هذه المحاكمات جزءا من قواعد القانون الدولي، كلفت لجنة القانون الدولية(C.D.I) بدراسة مشروع تقنين الجرائم المخلة بسلم الإنسانية و أمنها و كان آخره في عام 1996، و الذي لم يعتمد لحد الآن، و المشروع الثاني كان حول إنشاء محكمة جنائية دولية نظرا لاحتياجات المجتمع الدولي، و هو ما تم فعلا في عام 1998.
و عليه يمكن تناول هذه الدراسة بإيجاز وفق ما يقتضي به المقرر و ليس دراسة مفصلة، لأن ذلك يتجاوز المنهاج و يحتاج البحث فيها في العديد من موضوعاتها، و سنقسم الموضوع إلى النقاط التالية:
المطلب الأول: تأسيس المحكمة الجنائية الدولية.
المطلب الثاني: أولوية اختصاص القضاء الوطني.
المطلب الثالث: الاختصاص التكميلي للمحكمة الجنائية دولية.
المطلب الرابع: الاختصاص الموضوعي للمحكمة .
المطلب الخامس: اللجوء إلى المحكمة و تحريك الدعوى.
المطلب السادس: العقوبة في إطار المحكمة .
المطلب الأول: تأسيس المحكمة الجنائية الدولية .
عقدت الأمم المتحدة مؤتمرا دبلوماسيا ابتداءا من 17 جوان 1998 لمدة شهر حول إنشاء محكمة جنائية دولية، حضره جل فعاليات المجتمع الدولي، و تمخض عنه الاتفاق على معاهدة دولية منشأة لها بتاريخ 17 جويلية 1998، و دخلت حيز النفاذ في 01 جويلية 2002.
تعتبر المحكمة الجنائية الدولية مؤسسة أو هيئة قضائية جنائية دولية ذات طابع عالمي وصفة دائمة، أنشأت لغرض التحقيق و محاكمة الذين يرتكبون أشد الجرائم الدولية خطورة، حسب المادة الأولى من نظام روما (النظام الأساسي للمحكمة).
و تختص المحكمة كما سوف نرى، بالنظر في الجرائم التالية طبقا للمادة 5 من النظام الأساسي نفسه:
·جريمة العدوان، و التي لم يحدد مفهومها و أركانها لحد الآن، و بالتالي يؤجل اختصاص المحكمة حولها لاحقا.
·جريمة الإبادة الجماعية حسب المادة 6.
·الجرائم ضد الإنسانية حسب المادة 7.
·جرائم الحرب حسب المادة 8.
تتكون المحكمة الجنائية الدولية من :
·هيئة الرئاسة.
·مكتب الإدعاء العام.
جـ - غرفة تمهيدية،و غرفة ابتدائية،و غرف استئناف ، لأن الأحكام التي تصدرها قابلة للإستئناف طبقا لمبدأ التقاضي على درجتين.
د - قلم المحكمة أو كتابة ضبط المحكمة.
المطلب الثاني: أولوية اختصاص القضاء الوطني:
يتمثل مبدأ أولية اختصاص القضاء الوطني لإعمال المسؤولية الجنائية الدولية للفرد شرطا تمسكت به الدول المشاركة في المؤتمر الدبلوماسي في روما عام 1998 بناء على سيادتها، و إعطاء فرصة للدولة المعنية تفعيل اختصاص قضائها الوطني أولا، ثم في مرحلة لاحقة يمكن تطبيق اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، و بالتالي بناء نظام قضائي دولي أكثر فعالية في محاربة الجريمة الدولية و منها جريمة التعذيب.
غير أن تطبيق مبدأ اختصاص القضاء الوطني أن تتوافر فيه شروط، كما يجب أن يكون فعالا و قادرا على أداء مهامه و يتجاوز الصعوبات التي تواجهه، و عليه سنتطرق إلى دراسة هذا المطلب من خلال الفروع التالية:
الفرع الأول: مفهوم و مبررات مبدأ التكامل.
الفرع الثاني: شروط تطبيق مبدأ أولوية اختصاص القضاء الوطني.
الفرع الأول: مفهوم و مبررات مبدأ التكامل
أولا: مفهوم مبدأ التكامل:
نصت صراحة الفقرة العاشرة من ديباجة نظام روما "و إذ تؤكد أن المحكمة الجنائية الدولية المنشأة بموجب هذا النظام الاساسي ستكون مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية" على مبدأ التكامل بين المحكمة الجنائية الدولية و القضاء الجنائي الوطني للدول الأعضاء،و بالتالي كرست الديباجة أولوية اختصاص القضاء الجنائي الوطني على اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، و لم يكتف واضعو نظام روما نظام روما بتكريس مبدأ التكامل في ألديباجة بل تم تأكيده في المادة الأولى: "... و تكون المحكمة مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية..." بنفس الصياغة و العبارات، و تم تفصيل هذا المبدأ خاصة من خلال المادة 17 من النظام نفسه لإعطائه الصبغة الإلزامية الواجبة لهذا المبدأ و ينتج عنه أن الإختصاص القضائي الجنائي الداخلي دائما له الأولوية، فهو الأصل أو القاعدة، أما اختصاص المحكمة الجنائية الدولية فهو اختصاص احتياطي أو يمثل الاستثناء.
لم يحدد نظام روما نطاق اختصاص القضاء الجنائي الوطني باعتباره الأصل، و إنما حدد نطاق اختصاص المحكمة الجنائية الدولية في المادة 17 و هما حالتان:
الحالة الأولى: حالة انهيار النظام الوطني.
الحالة الثانية: عند رفض أو فشل النظام القضائي الوطني في التحقيق أو المحاكمة لمرتكبي الجرائمي الثلاث المنصوص عليها في المادة 5 و منها جرائم التعذيب أو معاقبة أولئك الذين أدينوا.
طبق نظام روما التكامل استثناء بالنسبة لباقي المحاكم الجنائية الدولية المؤقتة و الخاصة الأخرى سواء محكمتي نورمبورغ و طوكيو، و المحاكم التي أنشأها مجلس الأمن، فالأولوية كانت للقضاء الجنائي الدولي، و بالتالي كرس مبدأ أولوية القمع الجنائي الدولي على القمع الجنائي الداخلي بخلاف نظام روما.
ثانيا- مبررات مبدأ التكامل:
يتعبر تأسيس محكمة جنائية دورية بواسطة معاهدة دولية، ما كان ليتم بدون العودة إلى مبدأ السيادة و مساواة الدول في السيادة، و هذا يفسر تأخر المجتمع الدولي إلى نصف قرن في إنشاء هذه المؤسسة القضائية الدولية، و كذلك الجدل الفقهي و الرسمي الذي عرفته الأعمال التحضيرية للمحكمة و النقاش الحاد الذي شهده المؤتمر الدبلوماسي في روما بشأن اعتماد هذه المحكمة و نظامها الأساسي.
تمسكت الدول الأعضاء بمبدأ تكامل المحكمة الجنائية الدولية بالنسبة للقضاء الجنائي الوطني، وأولوية القمع الجنائي الوطني على القمع الجنائي الدولي، و هو المبدأ الذي بدونه ربما لم تظهر المحكمة الجنائية الدولية إلى الوجود، و المهم هو تفعيل هذا المبدأ، و من جهة أخرى تفعيل دور المحكمة كاختصاص استثنائي أو احتياطي، و الأهم من كل ذلك هو ضرورة استقلالية القضاء الوطني للدول الأعضاء، مع وجوب إدماج و مطابقة القانون الداخلي للدول الأطراف مع نظام روما و أولوية القانون الدولي طبقا للمادة 27 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969، و عدم الاعتداد بالصفة الرسمية أو مبدأ الحصانة، و هي بعض الضمانات لنجاح المبدأ.
الفرع الثاني: شروط تطبيق مبدأ أولوية اختصاص القضاء الوطني.
يجب تجنب تنازع الاختصاص بين القضاء الجنائي الوطني لدولة عضو في المحكمة أو طرف في نظام روما الأساسي، و المحكمة الجنائية، و استنادا إلى المادة الأولى من هذا النظام، فقد حددت المادة 17 منه كيفية و شروط تطبيق مبدأ الأولوية، و بالتالي يعود الاختصاص في النظر في الجريمة الدولية بموجب المادة 5 من النظام نفسه مع عدم قبول الدعوى نفسها أمام المحكمة الجنائية الدولية لنظرها من طرف القضاء الوطني.
أولا- أن تكون الدولة مختصة و لها ولاية قضائية على الجريمة:
تختص الدولة يسواء بموجب قانونها الداخلي أي قوانين الاجراءات الجزائية أو بموجب القانون الدولي، و نصت المادة 5 من اتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984 على اختصاص الدول الأطراف بقمع جرائم التعذيب، على الاختصاص اللإقليمي و هو المبدأ، و كذلك على الاختصاص الشخصي سواء الإيجابي أو السلبي، و نصت كذلك على الاختصاص العالمي.
·الاختصاص الإقليمي:
و يقصد به ارتكاب جرائم دولية على إقليم الدولة المعنية بالمفهوم الشامل البري أو البحري أو الجوي، أو ارتكاب جرائم دولية على متن سفينة أو طائرة مسجلة في هذه الدولة، فإن لهذه الأخيرة الولاية على هذه الجريمة و لها أن تباشر إجراءات التحقيق و المحاكمة و تطبيق و تنفيذ العقوبة، و يؤدي بذلك إلى عدم اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، و إذا رفعت أمامها فإنها تقضي بعدم قبولها ما دامت الدولة المختصة راغبة و قادرة على ذلك.
·الإختصاص الشخصي:
يفيد أنه يكون للدولة قضائية جنائية على رعياها المقيمين في الخارج و الذين يرتكبون جرائم دولية على إقليم الدولة المضيفة أو غيرها، و هذا هو الاختصاص الشخصي الإيجابي، و ينتج عن هذا الاختصاص أن الدولة المعنية يحق لها التحقيق و محاكمة ومعاقبة هؤلاء الرعايا إذا عادوا إلى بلادهم و لم يحاكموا أو يعاقبوا على أساس مبدأ الإقليمية في الدولة التي ارتكبوا الجريمة فيها كما يحق للدولة المختصة هذه طلب تسليم رعاياها الذين تتهمهم بهذه الجريمة .
و ينعقد لها الاختصاص كذلك ما إذا كان أحد رعاياها أو أكثر ضحية جريمة دولية، بأن تباشر التحقيق و المحاكمة و معاقبة الأشخاص الذين تشبه فيهم أو تتهمهم إذا ما دخلوا إلى إقليمها، أو أن تطلب تسليمهم وفق المعاهدات الدولية الثنائية أو اتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984 بالنسبة لجريمة التعذيب، أو النظام الأساسي لروما وفق الباب التاسع، وهذا ما يعرف بالاختصاص الشخصي السلبي.
·الاختصاص العالمي:
و يقصد به امتداد الولاية القضائية الجنائية الوطنية إلى قمع الجرائم الدولية خاصة الأشد خطورة مثل جرائم التعذيب و التي فيها الاختصاص الإقليمي أو الشخصي أو العيني، و هذا ما نصت عليه المادة 2/5 من اتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984، و نصت عليه كذلك النصوص المشتركة في اتفاقيات جنيف لعام 1949.
ثانيا- أن تكون الدولة المختصة بنظر الدعوى قد مارست إجراء من إجراءاتها:
يشترط نظام روما في المادة 17 إلى جانب ثبوت الولاية القضائية الجنائية للدولة الطرف أن تكون قد بدأت و مارست إجراءاتها القانونية حتى تغلق المنفذ أمام المحكمة الجنائية الدولية، و تكون الدعوى أمامها في حالة إذا رفعت، غير مقبولة.
و يقصد بممارسة الدولة المختصة إجراءاتها المتعلقة بالتحقيق أو الإجراءات المحاكمة مثل: إلقاء القبض على المشتبه فيه أو المتهم أو الاستجواب أو عرضه على التحقيق، أو إيداعه الحبس الإحتياطي أو إحالته على المحكمة المختصة بنظر النزاع.
و ما يهم المحكمة الجنائية الدولية هو الخضوع المتهم لمحاكمة عادلة و نزيهة و محايدة و صادقة تدل على الرغبة في المحاكمة، و لا تهم نتيجة المحاكمة من حيث البراءة أو الإدانة ما دامت تحظى بالضمانات و المعايير الدولية في المحاكمة العادلة طبقا للقانون الدولي.
أما إذا بدأ التحقيق ثم لم تستكمل المحكمة المختصة هذه الإجراءات بسبب عدم الرغبة أو القدرة على محاكمة المتهمين، فهنا يحق للمحكمة الجنائية الدولية إعادة النظر في القضية و نظر الدعوى على أساس مبدأ التكامل، كما سوف أفصل أكثر عند التطرق للاختصاص التكميلي للمحكمة .
إذن هذان الشرطان اللازمان تحقيقهما، و هما ثبوت الولاية القضائية الجنائية للدولة المعنية، و مباشرتها لاجراءات التحقيق أو المحاكمة حتى يطبق مبدأ أولوية اختصاص القضاء الجنائي الوطني.
المطلب الثالث: الاختصاص التكميلي للمحكمة الجنائية الدولية.
يتضح من نصوص نظام روما السابقة أن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية طبقا لمبدأ التكامل يأتي في المرحلة الثانية بعد تطبيق مبدأ أولوية اختصاص النظام القضائي الجنائي الوطني، فإذا قام بمهمته على أكمل وجه في قمع الجرائم الدولية التي حددتها المادة 5 من نظام روما، فإنه لا داعي لتطبيق مبدأ التكامل من أجل إعمال اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، و الذي يعتبر بمثابة اختصاص احتياطي.
و في الحالة العكسية و طبقا للمادة 17 من نظام روما إذا لم يستطع النظام القضائي الوطني القيام بمهمته هذه و هي محددة في حالتين فقط و هما:
·الحالة الأولى: عند انهيار النظام القضائي الوطني.
·الحالة الثانية: عند رفض أو فشل النظام القضائي الوطني في القيام بالتزاماته القانونية. و يقصد عدم القدرة على التحقيق و محاكمة الأشخاص المشتبه في ارتكابهم الجرائم الثلاث المحددة في المادة 5 أعلاه أو معاقبة أولئك الذين أدينوا، و سأعالج هذا الموضوع بداية من الشروط المسبقة لممارسة الاختصاص في فرع أول، ثم بعد تحديد حالات اختصاص المحكمة الجنائية الدولية في فرع ثان، و سوف أتطرق إلى حق اللجوء إلى هذه المحكمة و تحريك الدعوى أمامها في فرع ثالث، ثم سأقف عند العقوبة في إطار المحكمة في فرع رابع مع إمكانية الحكم بالتعويضات في فرع خامس.
الفرع الأول: الشروط المسبقة للممارسة الاختصاص .
قبل تحديد و دراسة الحالات التي ينعقد الاختصاص للمحكمة الجنائية للدولية لا بد من التطرق إلى الشروط المسبقة لممارسة اختصاصها بموجب المادة 12/2 من نظام روما، و هي وجوب أن تكون الجريمة محل المتابعة قد ارتكبت في إقليم دولة طرفا في هذا النظام أو أن مرتكب الجريمة هو أحد رعاياها.
و أضافت الفقرة الثالثة من المادة نفسها أن المحكمة الجنائية الدولية تكون مختصة كذلك عندما تعلن دولة ليست طرفا في نظام روما موافقتها على اختصاص المحكمة و تكون الجريمة قد ارتكبت في إقليم هذه الدولة أو يكون المتهم أحد رعاياها.
يتميز اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بأنه مقيد بمبدأ الإقليمية أساسا و بمبدأ الشخصية احتياطا،و ليس على أساس مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي ، مع شرط أن تكون الدولة التي وقعت الجريمة على إقليمها أو أن أحد رعاياها متهم فيها طرفا في نظام المحكمة أو أنها تعلن القبول لاختصاص المحكمة على هذه الجريمة التي تدخل في نطاق المادة 5 من نظام روما.
و بمفهوم المخالفة لا ولاية للمحكمة الجنائية الدولية على الجرائم المرتكبة في إقليم أو من قبل رعايا دولة لم تصادق أو لم تنضم إلى نظام روما أو لم تعلن الموافقة المسبقة لاختصاص المحكمة و هذا هو الأصل لأنه كما سوف نرى فيما بعد أن مجلس الأمن يمكن بحالة "حالة" على المحكمة بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة و حتى و لو كانت الجريمة موضوع المتابعة وقعت في إقليم دولة ليست طرفا في هذا النظام طبقا للمادة 13 و هدا يعد استثناء من الأصل.
الفرع الثاني: حالات اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
أولا- حالة انهيار النظام القضائي الوطني: (عدم القدرة).
أوردت هذه الحالة المادة 17/3 من نظام روما "لتحديد عدم القدرة في دعاوى معينة، تنظر المحكمة فيما إذا كانت الدولة غير قادرة ، بسبب انهيار كلي أو جوهري لنظامها القضائي الوطني أم بسبب عدم توافره، على إحضار المتهم أو الحصول على الأدلة و الشهادة الضرورية أو غير قادرة لسبب آخر على الاضطلاع بإجراءاتها"
و يتحقق انهيار النظام القضائي للدولة و بالتالي انقضاء اختصاصها الجنائي لمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية طبقا للمادة 5 من نظام روما فيما يلي:
·زوال سلطات الدولة بالاحتلال الأجنبي، مما يؤدي إلى سقوط الحكومة و باقي السلطات التشريعية و القضائية و تستبدل بسلطة الحاكم العسكري، مما يجعل النظام القضائي للدولة منهارا كلية و بصفة جوهرية .
·اندلاع حرب أهلية قد تفقد الدولة السيطرة على سلطتها، و بالتالي انهيار نظامها القضائي أمام ارتكاب جرائم حرب، و جرائم إبادة جماعية، و جرائم تعذيب، و يجعل عدم قدرة محاكمها الجنائية على محاكمة المتهمين مثلما حدث في الصومال منذ عام 1991 لحد الآن.
يعتبر الاحتلال و الحرب الأهلية الشاملة من بين الأسباب التي تؤدي إلى انهيار النظام القضائي للدولة، و بالتالي عدم قدرتها على قمع الجرائم الدولية طبقا لمعايير احترام حقوق الإنسان العالمية و عدم قدرتها على القبض على المتهمين و إجراء التحقيقات و المحاكمة و أمام هذا الوضع من الانهيار الكلي و الجوهري للنظام القضائي للدولة، و ما ينتج عنه من عدم القدرة على التحقيق و المحاكمة و العقاب، الذي ينقل الاختصاص للمحكمة الجنائية الدولية و الأسباب التي تم ذكرها هي الأمثلة التي نراها ممكنة الوقوع عمليا، أو لأي سبب آخر يجعل الدولة غير قادرة على الاضطلاع بإجراءاتها.
و يمكن أن أوكد على نقطة قانونية هذا و هي أن نقل الاختصاص إلى المحمكة الجنائية الدولية في هذه الحالة يقتضي أن تكون هذه الدولة التي انهار نظامها القضائي الوطني طرفا في نظام روما أو قد قبلت مسبقا باختصاص المحكمة، و في غير ذلك يبقى هناك حلا و حيدا هو إحالة-حالة- من طرف مجلس الأمن طبقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة على أساس المادة 13 من نظام روما و هي الحالة التي جاء من أجلها هذا الإجراء.
ثانيا- حالة رفض أو فشل النظام القضائي الوطني (عدم الرغبة):
تختلف هذه الحالة عن سابقتها كون النظام القضائي الوطني غير منهار فهو موجود، و لكنه غير فعال في أداء مهامه بشأن قمع الجرائم الدولية بموجب النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ففي هذه الحالة يطبق مبدأ أولوية للنظام القضائي الوطني، إلا أن الدولة تكون غير راغبة في أدائها في الحالات التالية:
·إذا كانت الدولة التي لها ولاية على الدعوى غير راغبة في الاضطلاع بالتحقيق أو محاكمة المتهمين.
·إذا قررت الدولة التي لها ولاية على الدعوى عدم محاكمة المتهم لعدم رغبتها في ذلك.
و حددت الفقرة 2 من المادة 13 من نظام روما متى تكون الدولة التي لها ولاية على الدعوى غير راغبة في القيام بمهامها و هي:
·القيام بالإجراءات أو يجري الاضطلاع بها و اتخاذ قرار بشأن حماية المتهم من إعمال المسؤولية الجنائية في الجرائم المرتكبة بموجب المادة 5 من نظام روما.
·حدوث تأخير غير مبرر في إجراءات التحقيق عن الجرائم المرتكبة بما يتعارض مع السرعة الواجبة في قمع مثل هذه الجرائم و ردعها، مما يوحي بنية عدم تقديم هؤلاء المشتبه فيهم أو المتهمين إلى العدالة.
·عدم مباشرة إجراءات المتابعة و التحقيق أولا تجري مباشرتها بشكل مستقل أو نزيه أو تجري مباشرتها بشكل صوري.
نستنتج أن حالة عدم رغبة الدولة التي لها ولاية على الدعوى في القيام بإجراءات التحقيق و المحاكمة و العقاب في حالة الإدانة، سواء باتخاذ قرار صريح و علني بعدم إعمال المسؤولية الجنائية للمشتبه فيه أو المتهم أو إنكار ارتكاب الجرائم الدولية دون إحالته على العدالة، مثل: بعض المشتبه فيهم من السودانيين سواء ضباط أو مسؤولين رسميين .
·الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949.
·الانتهاكات الجسيمة للقوانين و الاعراف المطبقة في النزاعات الدولية المسلحة و النزاعات المسلحة غير الدولية أو الداخلية.
الفرع الرابع: العدوان.
نصت عليه المادة 5 من نظام روما، و لكن تم تأجيل اختصاص المحكمة في نظر جريمة العدوان إلى حين تحديد مفهوم له و وضع أركان الجريمة، و صياغة دقيقة لمفهوم جريمة العدوان و لظوابط انعقاد اختصاص المحكمة، تتفق مع النصوص الواردة في ميثاق الأمم المتحدة، و ذلك بعد تعديل النظام الأساسي للمحكمة وفق المادتين 121، 123 من النظام نفسه.
هذه هي الاختصاصات الموضوعية للمحكمة و التي تم الاتفاق عليها في معاهدة التأسيس، و التي تمثل الجرائم الدولية الأشد خطورة على المجتمع الدولي بأسره و التي يجب على الجميع دولا و محكمة قمعها و ردعها حفاظا على المصالح العليا المشتركة للدول و للمجتمع الدولي.
المطلب الخامس: اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية و تحريك الدعوى.
يعتبر حق اللجوء إلى المحكمة و تحريك الدعوى الجنائية أمامها يتم بطريقتين اثنتين:
الطريقة الأولى: و يطلق عليها إحالة "حالة" بحسب التعبير و المصطلح الوارد في نظام روما من خلال المادة 13، بناء على طلب يتقدم به مجلس الأمن أو إحدى الدول الأطراف وفق شروط و إجراءات دقيقة إلى المدعي العام للمحكمة أو عن طريق دولة غير طرف تعلن قبول اختصاص المحكمة.
الطريقة الثانية: تحريك المدعي العام للمحكمة الدعوى الجنائية من تلقاء نفسه دون إحالة من جهة معينة قصد إجراء تحقيق طبقا لشروط و إجراءات يحددها النظام الأساسي للمحكمة.
و سأعرض هاتين الطريقتين على التوالي:
الفرع الأول: إحالة "الحالة" إلى المحكمة الجنائية الدولية.
تمارس المحكمة اختصاصها عند حدوث حالة حقيقية و مؤكدة بارتكاب جريمة دولية أو أكثر المحددة في المادة 5 من نظام المحكمة و منها جريمة أو جرائم التعذيب، و تحال إلى المدعي العام عن طريق:
·دولة طرف طبقا للمواد 13/ب، 14 من النظام نفسه.
·مجلس الأمن طبقا للمادة 13/ب.
·دولة غير طرف و أعلنت قبولها لاختصاص المحكمة (المادة 12/3).
أولا – الإحالة عن طريق دولة طرف إلى المدعي العام للمحكمة
أية حالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من الجرائم المذكورة في المادة 5 من نظام روما، و منها جريمة التعذيب قد ارتكبت، و أن تطلب من المدعي العام التحقيق في هذه الحالة، و ترفق الدولة ملف القضية بالمستندات المدعمة و الأدلة و كل الظروف و الملابسات المحيطة بهذه الحالة ( المادة 14 من نظام المحكمة).
ثانيا- إحالة مجلس الأمن "لحالة" إلى المدعي العام للمحكمة:
و تتم وفق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، و هذه الحالة تتميز بأن تتضمن تهديدا للسلم و الأمن الدوليين، و هو الاختصاص الأصيل لمجلس الأمن، و هو الوحيد الذي يقرر وجود هذا التهديد الدولي للسلم و الأمن، و من هنا جاء أساس تدخله في إجراءات المحكمة الجنائية الدولية، إذ يستطيع إحالة حالة عليها متى ارتكبت جرائم دولية شديدة الخطورة تدخل في اختصاصها و تؤثر على السلم و الأمن الدوليين.
و المحكمة لا تحتاج إلى التقيد بالشروط المذكورة في المادة 12/2 من نظامها، و هي ارتكاب الجريمة على لإقليم دولة طرف أو من أحد رعاياها، فهذه الشروط خاصة بإحالة "حالة" من الدول و ليس من طرف مجلس الأمن الذي يشترط في تلك الحالة أن تهدد السلم و الأمن الدوليين فقط، و هذا من تقديره الذي يخضع لاعتبار سياسي و ليس قانوني، و هذه العلاقة بين مجلس الأمن و المحكمة جاءت لسد ثغرة عدم اختصاص المحكمة بالجرائم المرتكبة على إقليم دولة ليست طرفا في نظام روما أو من قبل رعاياها، و من هنا جاء اختصاص المحكمة بالنسبة للجرائم المرتكبة في منطقة "دارفور" بالسودان نتيجة لإحالة "حالة" بقرار من مجلس الأمن بموجب الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة، بحيث قرر أن الجرائم المرتكبة في إقليم دارفور تهدد السلم و الأمن الدوليين ، وتعتبر الإحالة كبديل عن إنشاء مجلس الأمن محاكم جنائية دولية خاصة.
إذن فالشروط الواجب توافرها في إحالة "حالة" من مجلس الأمن إلى المحكمة هو إصدار قرار ملزم و استنادا إلى الفصل السابع من الميثاق و أن تتضمن الحالة تهديدا للسلم و الأمن الدولي.
تتحدد علاقة مجلس الأمن بالمحكمة الجنائية الدولية عن طريق إحالة "حالة" إلى المدعي العام بشأن التحقيق فيها و المقاضاة، و بالمقابل يمكن لمجلس الأمن أن يتدخل بطريقة أخرى و هي قدرته و سلطته في طلب تأجيل التحقيق و المحاكمة ""للحالة" المعنية تمت إحالتها على المحكمة مهما كان مصدرها، سواء دولة طرف، أو غير طرف، أو مجلس الأمن ذاته، أو كان تحريك الدعوى الجنائية من المدعي العام نفسه، و هذا التأجيل يكون لمدة 12 شهرا، و ذلك بصدور قرار من مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من الميثاق الذي يتضمن وجود تهديد للسلم و الأمن الدولي وفقا للمادة 16 من نظام روما، و يجوز تجديد هذا الطلب بنفس الشروط.
و هذا ما سعت بعض الأطراف من الدول في جامعة الدول العربية باستصدار قرار من مجلس الأمن لهذا الهدف إلى أن هذا المسعى لم يتم لعدم وجود توافق عليه.
و في هذا السياق أصدر مجلس الأمن بالإجماع القرار 1422 (2002)، بناء على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة يطلب فيه من المحكمة الجنائية الدولية طبقا للمادة 16 من نظامها الأساسي بعدم البدء في التحقيق أو المقاضاة لمدة 12 شهرا تبدأ من أول يوليو 2002 في كل حالة تتعلق بقوات حفظ السلام التابع للأمم المتحدة في البوسنة و الهرسك و ذلك بضغط من الولايات المتحدة الأمريكية لحماية قواتها من أية متابعة أمام المحكمة الجنائية الدولية، و هو القرار الذي تم تجديده بموجب القرار 1487 (2003) ، تحت تهديد الولايات المتحدة الأمريكية بالاعتراض على كل محاولة تمديد لبعثات الأمم المتحدة لحفظ السلام في العالم، و تحقيقا لنوع من التوازن في العلاقات الدولية يجب منح هذا الاختصاص بالتوازي إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لتفعيل دورها في هذا المجال.
ثالثا- إحالة "حالة" من طرف دولة غير طرف إلى المدعي العام للمحكمة:
و الشرط الأساسي لتطبيق هذه الإحالة هو إعلان الدولة غير طرف قبولها المسبق لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية طبقا للمادة 12/3 من نظامها الأساسي.
و تتضمن هذه "الحالة" ارتكاب جرائم تدخل في الإختصاص الموضوعي للمحكمة بموجب المادة 5 من نظامها، و تطلب من المدعي العام إجراء تحقيق بشأنها مع إفادته بكل ملف القضية و المستندات و الأدلة المتوفرة في إطار الالتزام بالتعاون طبقا للباب 9 من هذا النظام بين الدول الأطراف و المحكمة، و هنا أشير أن تعاون الدولة غير طرف و التي تعلن قبولها المسبق باختصاص المحكمة يلزمها هذا الإعلان بالتعاون مع المحكمة حول الحالة التي قامت بإحالتها على المحكمة فقط.
و تجدر الإشارة إلى أن المادة 12/3 من نظام روما استعمل لفظ "جريمة" وليس "حالة" فيما يتعلق بالإحالة من دولة غير طرف، و يقول الدكتور "محمود شريف بسيوني" أن ذلك يعتبر خطأ استخدم من طرف الذين صاغوا هذا النص بطريقة غير رسمية بدلا من استخدام مصطلح "حالة" و هو الأصح و المستعمل بالنسبة للإحالة من دولة طرف أو من مجلس الأمن.
المقصود بلفظ "حالة": " تعني الحالة حادث أو واقعة و ليس بمعنى حالة بسيطة".
وتعني كذلك: "نزاع يثور فيه شك حول مدى وقوع جريمة مما تختص به المحكمة من عدمه، أو يجعلها جديرة بالتحقيق وفقا للمادة 15 من النظام الأساسي و سلطة النائب العام في ذلك".
و يعرفها آخر "الحالة" هي: "النص الفعلي العام الذي يعتقد بموجبه أن جريمة داخلة في اختصاص المحكمة (المادة5) قد تم ارتكابها".
و يستفاد من هذه المفاهيم أن المقصود بالحالة هو مدى اعتبار الأفعال المرتكبة في واقعة أو حادثة معينة تشكل جريمة من الجرائم المنصوص عليها في المادة 5 من نظام المحكمة و يعود هذا التكييف الرسمي إلى المدعي العام الذي يخضع لرقابة الدائرة التمهيدية للمحكمة المشكلة من ثلاثة قضاة طبقا للمادة 15/4 من نظام روما.
الفرع الثاني: تحريك الدعوى الجنائية من المدعي العام للمحكمة:
يجوز للمدعي العام مباشرة التحقيق في ارتكاب الجرائم التي يحددها النظام الأساسي في المادة 5 بعد حصول على الإذن بالتحقيق من طرف الدائرة التمهيدية للمحكمة وفقا للمادة 15/4 أعلاه.
و هنا أشير إلى إمكانية لجوء الأفراد المتضررين أو ضحايا التعذيب بتقديم الأدلة و المعلومات و المستندات و كل الوقائع و الظروف التي أحاطت بهذه الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة.
و يقوم المدعي العام بتحليل جدية هذه المعلومات، و يجوز له التماس معلومات إضافية من الدول، أو أجهزة الأمم المتحدة أو المنظمات الدولية الحكومية و غير الحكومية أو أية مصادر أخرى موثوق منها يراها ملائمة، و يجوز له تلقي الشهادة الكتابية و الشفوية في مقر المحكمة.
و إذا استنتج المدعي العام أن هناك أساسا معقولا للشروع في إجراء تحقيق يقدم إذنا للدائرة التمهيدية للمحكمة بالسماح بالتحقيق إذا رأت الدائرة التمهيدية للمحكمة أن هناك أساسا معقولا للشروع في إجراء تحقيق بعد فحص الطلب و المواد المؤيدة و المستندات، أن تأذن له بالبدء في التحقيق، و يمكن للمدعي العام في حالة رفض هذا الإذن أن يجدد الطلب لاحقا كلما ظهرت وقائع أدلة جديدة طبقا للمادة 15 من نظام المحكمة.
تتصف إحالة قضية عن طريق مجلس الأمن أو الدولة الطرف أو الدولة غير الطرف تكون تلك "الحالة" في نفس المستوى و تتساوى من حيث مصدرها، بما فيها تحريك الدعوى الجنائية من المدعي العام الذي يقوم بدراسة هذه الطلبات المرفقة بالأدلة و المستندات لكي يشرع في الإجراءات وفق المادة 15 من نظام المحكمة، و التي يمكن للقضية أن تواصل مسارها من التحقيق و المحاكمة طبقا لما يشكله من أساس معقول للمحاكمة و اقتناع القضاة بالأدلة طبقا للإجراءات المنصوص عليه في نظام روما .
و مثال على إحالة "الحالة" دارفور من مجلس الأمن إلى المدعي العام للمحكمة بموجب القرار 1593 (2005) طبقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، و نتيجة لذلك و بعد إجراء التحقيقات اللازمة طبقا للنظام الأساسي للمحكمة أدى إلى إصداره مذكرة اعتقال الرئيس السوداني "عمر البشير" بتاريخ 4 مارس 2009 بتهمة ارتكاب جرائم حرب في دارفور و من بينها جرائم التعذيب، و هي أول سابقة في القانون الدولي يتم إصدار مذكرة اعتقال في حق رئيس دولة يزاول مهامه و هو تعبير عن تطور القانون الدولي المعاصر.
المطلب السادس: العقوبة في إطار المحكمة.
تطبق المحكمة الجنائية الدولية قواعد الإجراءات و الإثبات المنصوص عليها في نظامها الأساسي، و تصدر حكما بالبراءة أو الإدانة و ينفذ بمعرفتها بعدما يصير نهائيا.و في حالة الحكم بالإدانة توقع المحكمة على الشخص المدان جزاء جنائيا يتمثل في العقوبة المحددة التي توصل إليها القضاة و كيفية تقرير هذه العقوبة. و أتناول هاتين النقطتين كما يلي:
الفرع الأول: العقوبات الواجبة التطبيق.
الفرع الثاني: تقرير العقوبة.
الفرع الأول: العقوبات الواجبة التطبيق:
بعد محاكمة المتهم محاكمة عادلة طبقا لقواعد الإجراءات و الإثبات المنصوص عليها في النظام الأساسي للمحكمة، و في حالة الإدانة توقع على الشخص المدان بارتكاب جريمة في إطار المادة 5 من النظام الأساسي إحدى العقوبات التالية طبقا لنص المادة 77 الفقرة الأولى:
"(أ)- السجن لعدد محدد من السنوات لفترة لأقصاها 30 سنة.
(ب)- السجن المؤبد حيثما تكون هذه العقوبة مبررة بالخطورة البالغة للجريمة و بالظروف الخاصة للشخص المدان".
و أضافت المادة نفسها في الفقرة الثانية أنه يمكن للمحكمة أن تأمر بما يلي:
" ( أ )- فرض غرامة بموجب المعايير المنصوص عليها في القواعد الإجرائية و قواعد الإثبات.
" ( ب )- مصادرة العائدات و الممتلكات و الأصول المتأتية بصورة مباشرة أو غير مباشرة من تلك الجريمة دون المساس بحقوق الأطراف الثالثة الحسنة النية".
يتضح من خلال الفقرة الأولى من المادة 77 المذكورة أعلاه أن العقوبات الواجبة التطبيق من طرف المحكمة هي عقوبات أصلية و تنقسم إلى نوعين و عقوبات تبعية و بدورها تتضمن على نوعين:
أولا- العقوبات الأصلية:
النوع الأول: العقوبة الواجبة التطبيق و هي السجن المؤقت لعدد من السنوات تخضع للسلطة التقديرية للقضاة دون تحديد أدناها مع تحديد أقصاها و هي ثلاثون سنة تناسبا مع خطورة الجريمة، و خطورة الشخص المدان، و الظروف الخاصة لارتكابها الجريمة، و هذا التقدير يخضع لسلطة قضاة المحكمة سواء بالإجماع أو بأغلبية القضاة الذين يشكلون المحكمة، و إن تقدير العقوبة يخضع لرقابة جهات الاستئناف في المحكمة التي لها أن تؤيد أو تعدل من العقوبة أو حتى أن تبرئ المتهم.
النوع الثاني: العقوبة الواجبة التطبيق و هي السجن المؤبد كأقصى عقوبة توقعها المحكمة و يجب أن تكون مبررة و تتناسب مع طبيعة الخطورة البالغة للجريمة و بالظروف الخاصة للشخص المدان، كإصدار أحد المتهمين أوامر بالإبادة الجماعية أو التعذيب للعديد من الضحايا و التسبب في وفاة الكثيرين منهم و بصفة متكررة أين قد يصل عدد الضحايا إلى الآلاف كما حدث في مجازر "سربرينتشا" في يوغسلافيا السابقة من طرف قادة صرب البوسن و بخاصة من طرف رئيسها "سلوبودان كارادزيش"، و كذلك جرائم الحرب أو جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل في حربها الأخيرة على غزة في شهري ديسمبر و يناير 2009، أين أكد تقرير "جولدستون" في شهر أكتوبر 2009 ارتكاب اسرائيل لجرائم الحرب و الذي اعتبر قرار مجلس حقوق الإنسان الصادر بتاريخ 16 أكتوبر 2009 بمثابة إدانة لإسرائيل بكل ما قد يترتب عنه من أثار سياسية و قانونية و يجب الإشارة أن نظام روما لم ينص على عقوبة الإعدام تماشيا مع المعايير العالمية و الأوروبية التي تتجه نحو إلغاء عقوبة الإعدام مواكبة مع اتجاه القضاء الجنائي الدولي المعاصر.
ثانيا- العقوبات التبعية:
·فرض الغرامة.
· مصادرة العائدات و الممتلكات و الأصول التي لها علاقة بالجريمة دون المساس بحقوق الأطراف الثالثة حسنة النية.
يظهر من خلال صياغة الفقرة الثانية من المادة 77 من النظام الأساسي للمحكمة أن هذه العقوبات التبعية تتسم بما يلي:
·جاءت على سبيل الاختيار و ليس على سبيل الإلزام، كما يمكن للمحكمة أن تأمر بإضافة عقوبة تبعية للعقوبة الأصلية أولا تبعا لظروف و ملابسات الجريمة، و من باب أولى وجوب اتباع العقوبة التبعية إن وجدت للعقوبة الأصلية، و لا يمكن للمحكمة أن تفرض عقوبة تبعية لوحدها، فهي تلحق بالعقوبة الأصلية في إطار السلطة التقديرية لقضاة المحكمة.
· تقع هذه العقوبات التبعيىة سواء الغرامة أو المصادرة على الشخص المدان باعتبارها عقوبة جزئية و لا يمكن بأي حال توقيعها على الدولة التي ينتمي إليها هذا الأخير إليها بجنسيته، فما زال المبدأ المكرس هو تحميل الفرد المسؤولية الجنائية الدولية طبقا للمادة 25 من هذا النظام الأساسي.
لا يثير الأمر إشكالا في حالة الغرامة، و إنما الإشكال قد يثور في حالة المصادرة، فقد يستعمل الشخص المدان وسائل أو ممتلكات أو غيرها أو أسلحة أو معدات لارتكاب جرائمه و هو بصفته ممثلا للدولة أو موضفا رسميا، و بالتالي يستعمل هذه الوسائل التي تعود لدولته، فكيف تكون المصادرة، لذلك نصت المادة السابقة على السلطة التقديرية لقضاة المحكمة في تقدير ذلك على سبيل الخيار مع الأخذ بحسن نية الطرف الثالث الذي تعود إليه هذه الوسائل إذا كان لا يعلم بهذه الجرائم أو اتخذ ما في وسعه لمنعها و ردعها.
الفرع الثاني: تقرير العقوبة:
تقوم المحكمة الجنائية الدولية عند إصدار حكمها طبقا لقواعد الإجراءات و قواعد الإثبات، و في حالة الإدانة تحدد العقوبة الواجبة التطبيق سواء أكانت أصلية أو تبعية كما سبق، مع وجوب تقرير العقوبة و مراعاة النقاط التالية:
·تراعي المحكمة عند تقرير العقوبة عوامل مثل خطورة الجريمة و الظروف الخاصة للشخص المدان.
·خصم المدة التي قضاها المتهم المدان في الاحتجاز.
·ضم العقوبات في حال تعدد الجرائم و العقوبات الصادرة عن المحكمة التي تقوم بضمها في حكم واحد مشترك.
·عدد مدة العقوبة الإجمالي، و التي يجب ألا تقل عن مدة أقصى كل حكم على حدى.
كما يمكن للمحكمة الفصل في المسؤولية الجنائية الدولية المدنية بالتبعية أو جواز الحكم بحسب الإضرار بالضحايا.
- معلم: مبطـــــوش الحــــاج